أقلام ثقافية

حمرين شاهدٌ على السفر

سعد جرجيس سعيدالجبلُ والخوف والليل، ومحاولةُ انتزاع الحياة، محاولة بلوغ شاطيء للنجاة، وحمرين في تلك الليلة صامت لا صوت له إلا أصوات الخوف، ليس جبلا حسب مقاييس الجغرافيين، ولكنَّ الناس يسمونها جبال حمرين، ربما الرهبة الكائنة فيها تجعلها أكبرَ مما يجب، ينسى الهاربون إلى حمرين أصوات الذئاب حين تعلن القلوب أنها وجلةٌ، حين يزيد نبض القلوب على ما ألفته من قبل.

عائلةٌ بأبويها وأطفالها ونسائها وشبابها وأحلامها وطموحها ورجائها وخوفها تحاول اجتياز جبل حمرين في تلك الظلماء هربا من الدواعش، هربا من الحياة بجوارهم، أو تحت سلطتهم، آواهم الليل إلى حمرين، فلا مهرب من أعين الدواعش إلا حمرين والليل، فالدواعش يُمْسكون الدروب المطمئنة، ويمسكون النهار، فلا سبيل للهرب إلا سبيل حمرين والليل.

حمرين أيها الجبل الكبير، أيها الخوف الذي لا نهاية له، أيها الوجل الذي لا ينتهي حتى تنتهي الأرض التي يحكمها الدواعش، كانت تلك العائلة يشد بعضها إزر بعض، ويُطمئِن بعضها بعضا حينا، وحينا يلبس بعضُها بعضا رداء الخوف، لأن الهلاك من أمامهم والدواعش من ورائهم، نساء يحيط بهن الليل من كل مكان، وأطفال يحاصرهم الجبل من كل الجهات، ورجال رأوا طريق النجاة أطولَ من طريق الجبل الطويل، يمشون والجبل والخوف والليل معهم، وأصوات الدراجات النارية للدواعش كل حين تتسلل إلى ما بقي من مساحة من سلام في حيواتهم، العطش بدأ يتسلل إلى حناجرهم، الماء الذي بين أيديهم يوشك على النفاد، صدور صغيرة تتلقى آخر ما بقي من قطرات الماء، يمشون، وطريق الجبل موحشٌ أمام عيون لم تر هذا الخوف من قبل، الخوف من أصوات الذئاب، وأصوات دراجات الدواعش يخف شيئا فشيئا حين يبدأ هجوم العطش، فحين يتسلط عليك العطش تنسى ما دونه، لا تفكر حينها إلا بالماء، أيدٍ كبيرة تمسك بأيد صغيرة، وأيد صغيرة تتشبث بأذيال عليها غبارُ السفر، كلما أسرعوا في السير أسرع العطش إلى صدورهم.

- أمي عطشان، أريد ماي.

كلمات تحمل ظمأ الأرض كله يلقيها طفل لم يبلغ السادسة، لا يكاد يخرجها، فالعطش يعقد شفتيه، (أمي عطشان، أريد ماي) أهون ما يمكن أن يطلبه طفلٌ من أمه، وأصعب ما يمكن أن تقدمه أمٌّ في هذا الجبل الذي يبكي لظمأ الناس، يجلس الطفل الحزين على صعيد الجبل، لا يستطيع السير، تحتضنه أمه لعلها تنأى به عن جبل الظمأ، عن ليل العطش الذي لا ينتهي.

العطش يستولي على الجميع، لا مهرب منه، يجلس الصغار، الصدور الطرية أسرع إلى الذبول، والقلوب الصغيرة يأتيها الجفاف قبل غيرها، يحملونهم  لمسافة ما، يجرونهم، ينسون أن الدماء تقطر من أقدامهم، صخور الجبل لم تعد تؤلم أقدام الأطفال، فالعطش هو الألم الوحيد الذي يفرض سلطانه على تلك الأجساد.

على صعيد الجبل يجلس الجميع، لم يعودوا يستطيعون السير، تغيب أصوات الدراجات النارية وأصوات الذئاب، يغيب الصباح بعيدا بعيدا، تظل العيون الخافتة تنظر إلى السماء حينا، وإلى الوجوه الظامئة حينا، العطش يطبق على الأفواه جميعها، فلا تستطيعون أن يقولوا كلمات النهاية، تقولها عيون ذابلة، وقلوب تنبض نبضا هادئا حزينا، قلوب تدري أنها ستسكت بعد قليل، فتعلن في ذلك الليل أنها هادئة مطمئنة، عائلة آواها الليل والخوف إلى الموت، فماتوا جميعا، مثل أي عائلة أخرى يدعوها الليل إلى السمر فيتسامرون ويضحكون جميعا.

أم تحتضن طفلها، تمنحه سلاما دافئا، تحتضنه بحنان يذهب عنه ظمأ الحياة كله، وطفلة تلتجيء إلى صدر أبيها تنظر إليه، وكأنها تعاتبه، أب يعجز عن قدح ماء، يتكور على جسدها الصغير، يريد أن يحميها بعد سكوت قلبها وقلبه، يريد أن يحجب عنها لفحة الشمس، وهواجر حمرين، على صعيد جبل حمرين انضم بعضهم إلى بعض، وكأنهم يتسامرون، ماذا كان يا ترى آخر كلام للقلوب، وآخر حديث للعيون، من يا ترى مات أولا ومن مات آخرا، هل الوجوه التي عليها بقايا الدموع ماتت آخرا فبكت على الأموات، أم هي ماتت أولا فبكت على الأحياء، وهل الطفل وهو يتشبث بحضن أمه مات قبلها، أم هي التي ماتت قبله فلجأ إلى حضنها لأنه يدري أن هذا المكان هو الذي سقاه أول مرة، وأن الحنان لا ينضب من هذا الحضن حتى وإن فراقته الحياة.

حمرين يمنح مناكبه لشروق الشمس، يفرش صخوره وترابه لاستقبال ضيائها، تشرق الشمس، فترسل ضياءها من بعيد لتلك الوجوه الظمأى، يجفل ضياء الشمس من بكاء حمرين، حمرين ليس بخيلا، ولكن لا ماء لديه، حمرين جبل للحب والحياة، ولكن خطى الدواعش نشرت الخوف على أرجائه جميعها، حمرين ملاذ للخائفين، ولكن الدواعش خطفوا منه أمانه جميعا.

حمرين يظل هو الشاهدَ الوحيد لرحيل عائلة كاملة في ليلة من لياليه التي ستظل تحتفظها ذاكرته.

 

سَعْد جَرْجِيْس سَعِيْد - شاعر وأكاديمي / العراق

4-10-2015 الشرقاط.

 

في المثقف اليوم