أقلام ثقافية

متزوجون سعداء!!

محمد العباسيكثيراً ما أرى في رحلاتي لدول العالم منظراً غريباً .. فصار من البديهي أن ألاحظه وأعلق عليه.. إنه ذات المنظر.. يتكرر في كل أرجاء المعمورة.. عجائز متزوجون (؟) .. أو هكذا يبدون.. نعم يبدو أنهم متزوجون لما بين الطرفين من ألفة واضحة.. مودة لا تخفى على العين.. وئام غريب لكنه ملائكي جميل لا نجده بين أمتنا ولا نلمسه بين أهلنا.. أو على الأقل يمكن القول بأننا لا نراه !

تجدون عجوزاً شمطاء بلغت من العمر عتياً.. وبعلها ربما يفوقها في عدد السنين.. عادة تكون هذه الأمثلة من الدول الغربية.. التجاعيد قد خطت خطوطها بالطول والعرض على وجهيهما.. وأحدهما ربما متعكز على عصاه.. ورغم كل ذلك.. تجدهما قد سافرا معاً إلى أقاصي الدنيا.. ربما تجدهما عند سفح الأهرامات.. أو عند تاج محل في الهند.. في معابد تايلند.. عند سور الصين .. في "غولد كوست" أستراليا.. في أسواق كمبوديا.. في أزقة المغرب.. في متاحف تركيا.. حيثما يكونون هؤلاء الأوروبيون العجائز.. تجدهم مبتسمين.. مستمتعين بالحياة.. متمسكين بعدم تضييع السنوات القليلة الباقية من العمر.. يراعيان بعضهما البعض بعاطفة ملفتة للنظر.. يجلسان في المقاهي لتناول قهوة الصباح ويستمتعان بحديث هادئ.. يتحاوران بهدوء واهتمام بالغ.. ينصتان لبعضهما البعض بشغف.. والأكثر اتزاناً بينهما قد يقطع الكعكة للطرف الآخر.. تشعر بحب دفين وعاطفة جلية بينهما.. تشعر بحميمية لم تقضي عليها السنوات الممتدة ربما لنصف قرن أو أكثر من العشرة.. كم أستغرب من هذه المشاهد بين من "نوصمهم" نحن بصفة "الكفرة" رغم أن علاقتهما "الدنيوية" تتسم بقمة الإيمان والوفاء والحنان والعطاء !!

أي موضوع "جديد" يدور بينهما يا ترى؟ ألم يتكلما في كل الأمور عبر السنوات الماضية؟ هل لا يزالان يجدان بذور مواضيع جديدة تثير اهتمامهما؟ هل من المعقول أنهما حقا متزوجان ولم تخبو عندهم العواطف بعد هذا العمر؟! فلينظر كل منا حوله.. الجدين مثلاً.. وللأكبر سنا منا الأبوين.. هل يا ترى يستمتعان بالحياة كما يجب؟ هل يخرجان لوحدهما لمطعم أو حفل موسيقي أو مسرح أو مهرجان أو للسينما مثلاً؟ هل يسافران كما لو كانا في شهر عسل متجدد؟ 33هل يُظهران أمام أبنائهم وأحفادهم تلك المودة لتكون لهم قدوة رائعة؟

دعونا من مظاهر الاحترام والعادات والتقاليد والفرض والواجب.. هل تشعرون أن بينهما مودة العشاق.. احتضان.. قبلة على "الخد" أمام الأولاد والأحفاد؟ أم أننا متمنعون (ما نستاهل) التمتع بالحياة ولو بعد حين؟ يبدو أننا ألبسنا كل شيء في حياتنا لباس الحشمة والعيب و(ما يصير) والمقولة المملة (كبرنا على هالسوالف).. لدرجة أننا قتلنا فينا كل مظاهر المشاعر العاطفية.. فأيام الشباب والأيام الأولى من الحياة الزوجية تموت عندنا لأننا نورط أنفسنا بأعباء لا طاقة لنا عليها.. ننشغل بتوالي الأولاد وكأنما الأمر الدخول في سباق لإثبات القدرة على الإنجاب والفحولة.. ومع الأولاد تتفاقم الالتزامات والنفقات ولا نستمتع بالحياة.. وحتى بعد أن يكبر الأولاد نتعذر بكبر السن وفوات الأوان.. أي يأس هذا الذي يصيبنا ولماذا نحرم أنفسنا من العيش ولو قليلاً ونبعث الروح في علاقاتنا الزوجية؟ .. فالزواج ليس بمقبرة للحياة !!

كم أحسد هؤلاء العجائز الغربيين.. فبرغم التقدم بالعمر لا يزالون يتمتعون بالحياة قبل فوات الأوان.. أما نحن في مجتمعاتنا الشرقية وبالذات العربية الخليجية فكل شيء عندنا "عيب".. بل هو كسل وخمول وبلادة ولامبالاة.. فالرجل يستحي أن يمسك بيد زوجته في الأماكن العامة أو حتى أمام (عياله).. ففي مجتمعاتنا "الرجولية" يكون الزوج والأب هو المسئول الأول عن هذا الضمور العاطفي.. فنحرم أنفسنا من أجمل لحظات العمر والحياة الزوجية لتصبح حياتنا مجرد فرض وواجب والتزامات مادية.. بل لنقل أننا نهرم قبل ميعادنا.. والنساء تعجزن حتى عن المشي في سن الأربعين! أو كما يقول الكاتب المصري الساخر "جلال عامر": "البلد دي فيها ناس عايشة كويس .. وناس كويس أنها عايشة".. أصبحنا متقاعدين مقعدين ونصاب بالكساح العاطفي المبكر.. وتجرنا الأيام نحو القبر في غفلة !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم