أقلام ثقافية

بوشكين وغوغول

ضياء نافعبوشكين بالنسبة لغوغول مثل الاستاذ بالنسبة لطالبه، رغم ان الفرق في الاعمار بينهما ليس كبيرا نسبيا، فقد ولد بوشكين عام 1799 بينما ولد غوغول عام 1809 . لقد كان غوغول (يلتهم! ان صحّ هذا التعبير) كل ما يصدر عن بوشكين من نتاجات، وكان يعتبره المثل والنموذج الاعلى، وعندما وصل غوغول من اوكراينا الى بطرسبورغ، وكان ذلك عام 1829، استفسر رأسا عن عنوان شقة بوشكين وتوجه الى هناك دون اي موعد مسبق ، وطرق الباب (بعد تردد كبير)، وسأل عن بوشكين، الا ان الخادم الذي فتح له الباب قال له، ان بوشكين لازال نائما، فسأله غوغول (انطلاقا من الصورة الفنية الخاصة جدا التي رسمها غوغول لبوشكين في اعماق روحه وكيانه) - لأنه كان طوال الليل يكتب القصائد ؟ فأجابه الخادم – لا، لقد كانوا طوال الليل يلعبون الورق، وقد اصيب غوغول بصدمة من جواب الخادم هذا، لانه كان يتصور بوشكين محاطا دائما باجواء الالهام والابداع الادبي البحت.

اللقاء الاول بين غوغول وبوشكين في بطرسبورغ تم فقط في صيف عام 1831، وذلك في بيت الشاعر والناقد الادبي بليتنيف، وكان غوغول قد أصدر كتابه المتميّز الشهير- (امسيات عند قرية ديكانكا)، الذي اطلع عليه بوشكين طبعا وكتب عنه تقريظا ممتازا واعتبره كتابا مرحا مدهشا، بل ان بوشكين وجد فيه حتى (مقاطع شعرية)، وقد ساعد هذا التقريظ طبعا على التعارف آنذاك ومن ثم التقارب بينهما .

 لقد ساند بوشكين - وبقوة وحماس – غوغول، وحاول وبكل طاقته على ان يشغل غوغول مكانة متميّزة في الاوساط الادبية والثقافية، وفتح له مجال النشر في مجلته (المعاصر)، ونشر غوغول فيها فعلا عدة نتاجات من ابداعه، مثل قصته الطويلة المشهورة (الانف)، و(العربة) وغيرها، ونشر هناك ايضا مقالته النقدية بعنوان (عن حركة ادب المجلات في 1834 و1835)، والتي تعدّ لحد الان واحدة من المقالات النقدية المهمة في تراث غوغول . ومن المعروف، ان بوشكين هو الذي أعطى لغوغول فكرة مسرحيته الشهيرة (المفتش العام)، وكذلك أعطاه فكرة روايته (الارواح الميتة)، وهما طبعا النتاجان الاساسيان والرئيسان في مسيرة غوغول الابداعية، وقد كتب غوغول نفسه عن ذلك بكل صراحة ودقة، وحاول بوشكين ايضا ان يجد مكانا لغوغول للعمل في التدريس بجامعة بطرسبورغ (في قسم التاريخ)، ومن المعروف، ان غوغول ألقى محاضرة (حضرها بوشكين وبعض الشخصيات الفكرية الروسية الاخرى ومن بينهم الشاعر والمترجم الكبير جوكوفسكي) في جامعة بطرسبورغ بعنوان (المأمون) عن الخليفة العباسي (لا زالت لحد الان صورة غوغول معلقة في جامعة بطرسبورغ ضمن صور الاساتذة فيها، وقد شاهدتها انا شخصيا عندما زرت تلك الجامعة عام 2006 مع رئيس جامعة بغداد آنذاك أ.د.موسى الموسوي).

 ومحاضرة غوغول عن المأمون معروفة ومنشورة ضمن كتبه ومؤلفاته الكاملة ومترجمة الى العديد من اللغات، وقد ترجمها الزميل كامران قره داغي الى العربية في بغداد بالسبعينات بشكل رائع ونشرها آنذاك، وتناولها الكثير من الباحثين العرب في بحوثهم وترجماتهم عند الكلام عن الموضوعة العربية في الادب الروسي بشكل عام، ولا مجال للتوسع في هذا الموضوع هنا .

سافر غوغول من روسيا بعد عرض مسرحية (المفتش العام) عام 1836 (والتي حضرها قيصر روسيا بنفسه) والضجة الهائلة التي ارتبطت بذلك العرض، وسمع بخبر مقتل بوشكين في مبارزته الشهيرة مع دانتيس الفرنسي وهو في اوربا، وتأثر جدا، بل انه قال (حسب ذكريات احد اصدقائه) انه تأثر عند سماعه بموت بوشكين أكثر مما لو سمع بموت والدته، التي تعد أعز انسان لديه . ولم يستطع غوغول – بسبب الحزن – حتى ان يستمر بالعمل في كتابة روايته (الارواح الميتة) لفترة من الزمن . وكتب غوغول بعد مقتل بوشكين يقول – (...لم أعمل اي شئ دون نصيحته، ولم اكتب دون ان اتصور انه امامي ..) .

 نود ان نشير هنا الى مقالة غوغول الموسومة (بضع كلمات عن بوشكين)، والتي حدد فيها غوغول مكانة بوشكين الحقيقية في تاريخ الادب الروسي، وأطلق عليه تسمية - (شاعر روسيا الوطني الاعظم) لاول مرة في التاريخ الروسي، ومدى تأثير ذلك على مجمل حركة النقد الادبي في روسيا (انظر مقالتنا بعنوان – بعض كلمات غوغول عن بوشكين).

ختاما لهذا العرض عن العلاقات الفكرية المتبادلة بين قطبين من أقطاب الادب الروسي والعالمي ايضا، من الطريف ان نذكر، ان السينما الروسية المعاصرة انتجت فيلما سينمائيا وثائقيا (44 دقيقة) عام 2009 بعنوان – (كيف اصبح بوشكين وغوغول أقرباء)، حيث تزوج ابن اخت غوغول حفيدة بوشكين، ابنة الابن الاكبر لبوشكين، وتم زواجهما عام 1881 في ضواحي موسكو، وهكذا ظهر لهم ابناء يوحدون غوغول وبوشكين، وقد حاز هذا الفيلم على جائزة (الادب والسينما) عام 2010 في روسيا.

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم