أقلام ثقافية

الحصول على لقب الأستاذية في الوهم

885 علي بدرإن قراءة الرواية هي بمثابة إثارة الذهن وإيقاظه ليرى واقعه من عدة زوايا مختلفة. للحصول على صورة أكثر كمالاً للواقع.

عن التقليد

من أجمل الحوارات وأهمها هو ذلك الحوار المنشور في اليوتيوب مع الروائي العراقي (علي بدر) الذي أجراه الروائي التونسي (كمال الرياحي) للقناة الوطنية التونسية الأولى. يقول في الدقيقة السابعة والنصف: (اشتغلت على التقليد، الإيميتاسيون imitation، واكتشفت ان العمل مع الغرب نقلي وليس عقلي، فلم تكن هناك حركة نقدية ازاء الافكار الواردة من الغرب، فصورة المثقف هي صورة شكلية). وذلك يحيلنا مباشرة لرواية (بابا سارتر) وبطلها فيلسوف الصدرية ذلك الذي لم يجد إلا الفسلفة الوجودية ليختارها شكلاً مزيفاً له، ليخسر وجوده مرتين.

تبالغ مجتمعاتنا العربية في التواصل بين أفرادها على المظاهر الشكلية، من طريقة قص الشعر إلى الملبس، إلى نوع وسيلة النقل المستخدمة حتى. وتجتهد الأغلبية على أن تكون متشابهة، وعلى إعدام التفرد، فتجد أن مثلاً قصات الشعر لدى الرجال متوحدة، وألوان الملابس محدودة وتشبه لون الأرض (هل ذلك تقليد للحرباء؟). لا ينبع ذلك من حس سياسي إشتراكي. أبداً. بل هو مجرد خوف من التفرد، وهو شيء من الطاعة.

أشكال أبطال علي بدر

ينشغل أبطال (علي بدر) فترة في ذلك الصراع البدائي المركز على شكلهم، وهم ينجحون بعد جهد وتوتر في إيجاد شكل ما يعبر عنهم، شكلهم الفريد، وجودهم. لكن هل يمكن أن نقول بأنهم فارغين من الداخل؟ جوف؟

تشجعت حين رأيت أن إحدى المجموعات الفيسبوكية تقترح قراءة جماعية لرواية علي بدر (أساتذة الوهم) فشاركت في القراءة وعجبتني تلك الرواية التي تشبه في فكرتها رواية (بابا ساتر)، فالموضوع هو الوجود والزيف.

ولو أردنا تحديد الشبه مع (بابا سارتر) فسنجد أن هناك عراقي يتزوج من أوربية، ثم يشعر بالفوقية لأنه فعل ذلك، رغم أن ذلك الزواج لم يكن سوى إقتران شكلي كاذب في انتماءه، تمثيلي في مظهره، غير أصيل. فعلى سبيل المثال نجد أن (منير) لا يعرف أصلا أن يتكلم الروسية لكنه يكذب قائلاً أنه يترجم قصائد عن الروسية وهو في الحقيقة يقول ما يحلو له، ورغم ذلك إلا أن الآخرين كانوا يعجبون به، رغم أننا نستطيع أن نتخيل ركاكة الشعر المترجم بدون وزن ولا قافية، وفوق ذلك يقال بطريقة إرتجالية.

الرغبة في الإبقاء على الجهل وإضافة الطابع السحري له

والشبه الآخر هو ذلك التوق الى شخصية خارقة ومبالغة في تأثيرها وقدراتها فحين قرأ الراوي تلك القصائد التي كتبها (إبراهيم) لم ينم ليلته وتغيرت نظرته للمحيط من حوله، وشعر برعب وبغموض وبإبهام. ردة الفعل المبالغة هذه كانت شيئاً يريده الراوي ربما. كان يريد شيئاً يهزه وقد قام بالتمثيل على نفسه بعض الشيء، وإلا ما هو تبرير كل تلك المشاعر العنيفة أمام قصائد قرأها. يفسر له إبراهيم الذي يحب إكالة الألقاب لنفسه مثل لقب (الدكتور فاوست)، بأنه يكتب القصائد من وحي الأشباح، تلك الأشباح التي عادة نعزي إليها ما نجهل علته. لم تغب عن الراوي التفطن إلى أن هناك رائحة موت، بل غلبة للموت على الحياة في منزل إبراهيم وطريقة تفكيره. فيما يمعن إبراهيم بجهله، بل بحبه لذلك الجهل بأعماق النفس البشرية، فيقول مثلاً أنه يحب الخفافيش لأنها سرية، وهو بذلك يحب غرابته ولا يريد أن يكشف عن سرها، فيما يقوم إبراهيم بذلك نجد أن راوينا، الذي هو ربما أكثر شباباً وإمتلاءاً بحب الحياة، يشخص ذلك الشبه مع تلك المرحلة الطفولية حين نحب كأطفال وضع الضمادات على أجسادنا لنمثل دور الجرحى مستدرين عطف الوالدين والآخرين، ممثلين دور المعانين الشهداء، ذلك (الموت المصطنع هو أكبر من أي شيء ساد حياتي).

هنالك في الرواية وصف فيه بعض التفاصيل للعملية الجنسية. اعتقد ان وصف تلك العلاقة بين نازك وعيسى وكل ما احاطها من تفاصيل يعطي ذلك الانطباع بانتفاء السحر المبهم والتضخيم للعلاقات الجنسية، يهدف بشكل ما لان نزيل الوهم، (نفس ذلك الوهم الذي كنا نحيط به الاساتذة)، هي دعوة لرؤية حقيقة الاشياء وازالة الاوهام والقبول بالعادية، عادية الاشياء حتى لو كانت تبدو مثيرة للاشمئزاز لكن هي دعوة اولا للقبول بان هذا هو ما يحدث حقاً.

مركز التحكم في حياتنا

يشعر البعض أنه هو سبب ما يحصل له من نجاح أو فشل، بأن مركز التحكم يأتي من داخله، بينما يعلل البعض الآخر ما يحصل لهم بأنه بسبب أسباب آخرى، فلو فشل في الإمتحان فإن المعلم غير جيد مثلاً أو أن الأسئلة صعبة. ويمكن أن يتحول من يمتلك مركز تحكم داخلي، في ظرف الحروب أو الكوارث الطبيعية إلى شخص يمتلك مركز تحكم خارجي لأنه أحس أنه لا يستطيع التحكم بمصيره، وهو ربما ما حصل لكل هؤلاء الذين صاروا يلجأون للأبراج بشكل مفرط. تسمى هذه النظرية في علم النفس بـ(نظرية موقع الضبط أو نظرية مركز التحكم Locus of control).

ويمكننا أن نفسر في ضوء هذه النظرية لماذا يحب إبراهيم الضياع في تنبؤات نوستراداموس، وتعليلات تتمحور على الأبراج والكواكب.

الرواية في عصرنا الحالي

رجوعاً للمقابلة المنشورة في اليوتيوب مع علي بدر فإنه يقول في الدقيقة التاسعة: (الرواية هي النقد وهي البحث، واعتقد ان الرواية هي البديل الحقيقي عن العلوم الانسانية لان تلك العلوم في الجامعات مرتبطة بالسلطة السياسية والدينية فتبقى فقط الرواية هي القادرة فعلا على بيان الحركة الاجتماعية الخفية)، ثم يتكلم بعد ذلك عن إكتشاف المدن عبر الروايات التي كتبت عنها، ثم في الدقيقة الرابعة عشر واربعين دقيقة  يتكلم عن مقولة باختين حول الشعر وكيف أنه يقوى حين تكون السلطة دكتاتورية او ارستقراطية لكن حين تضعف السلطة تتعدد الاصوات فيظهر كلام المهمشين، ثم يربط علي بدر مقولة باختين بالعراق ويقول: (وهذا ينطبق على العراق ففي الثمانينات كان صوت الشعر عالي وانخفض صوت الرواية في التسعينات في العراق لم يضعف النظام فقط بل ضعف شكل القصيدة فصارت نثرية وبدات تظهر الرواية).

ليس لدي هنا ما أضيفه لما قاله علي بدر، سوى الإشارة ربما لمقالة (وليد غالب) في موقع الناقد العراقي حول رواية (أساتذة الوهم) الذي كتب فيه عن (الهوية الثقافية)، (التكبر والغرور)، (الإستعراضية)، (الشعور بأنهم مسيرون وبالتالي غير مؤثرون بمحيطهم وبالتالي اختيار العزلة)، وغيرها من تفسيرات لهذه الرواية.

وفي الأخير أريد أن أسجل تحية للسارد في الرواية، فهو كما في رواية (بابا سارتر)، و(حارس التبغ)، يقوم بعمل أشبه بالصحفي خصوصاً في بداية الرواية، يلاحظ بموضوعية ويصف بحياد. وفيما يلجأ إبراهيم لنوستراداموس متوسوساً بالموت، ويقدم منير أصدقاءه لبعضهم البعض بلقب (شاعر) مملوءاً بتهيج المشاعر، يبقى السارد ملاحظاً لماحاً متسائلاً خلوقاً ينظر للأمام، فيه شيء من الحياة.

 

سامي عادل البدري

.....................

مراجع:

١- مقالة وليد غالب بعنوان (أساتذة الوهم لعلي بدر) على الرابط:

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/55923.php

٢- رابط مقابلة التلفزيون التونسي مع علي بدر في اليوتيوب

https://www.youtube.com/watch?v=w_P-CgOQoHM&t=1676s

 

في المثقف اليوم