أقلام ثقافية

"الحدود المُلتهبة" و"حدود الشر"

علي المرهجفي سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية أنتجت دائرة السينما العراقية فيلماً سينمائياً بعنوان "الحدود المُلتهبة" وهو تسجيل لبعض من آلام الجنود العراقيين أيام هذه الحرب ودعم لمعنوياتهم شارك في انتاجه ما يُسمى حينذاك (مُديرية التوجيه السياسي) التي تم تعديل الإسم فيما بعد لتكون (مُديرية التوجيه المعنوي)، وهي مُديرية نشطة مهمتها رفع معنويات المقاتلين أيام الحرب سواء بانتاج أغان وطنية، وهي في الأغلب الأعم تتغنى لا بحب الوطن بقدر ما يتغنى شاعرها وملحنها ومؤدوها بشجاعة "القائد الضرورة"، وعلى ما يُوجه لهذه المديرية من نقد إلَا أن العارفين في مُتطلبات الانتصار في الحرب هو دور الإعلام فيها أو ما سماه (صلاح نصر) مُدير المخابرات أيام عبد الناصر بمصر (الحرب النفسية) التي من متطلباتها رفع معنويات المقاتلين وصناعة الخبر بما يخدم قادة الحرب ويُحسن من صورتهم بوصفهم القادة الأمثل في هذه المرحلة وبما يجعل الجنود أكثر وثوقية بقدرة هؤلاء القادة على تحقيق النصر وبمعنويات عالية، ولا مكان لرفع معنويات الجنود (المقاتلين) في الحرب في رؤى الفلاسفة والمفكرين التأمليين الحالمين بمعرفة الحقيقة، لأن إحدى أهم وسائل تحقيق الانتصار هي ايهام العدو بأنه على باطل في حربه، وايهام الموالي بأنه إن كان هُناك ما يقتضي الإيهام بأن حربه مع العدو هي حرب مُقدسة، وأظن أن كلا طرفي النظام: العراقي والإيراني استخدم لغة (الحرب النفسية) هذه بتوصيف حربه مع الطرف الآخر على أنها (حرب مُقدسة)، وهي حرب على (الباطل) كي ينتصر (الحق)!!، وبالضرورة كل طرف في الحرب يصنع حقيقته أو قُلَ (وهمه)، ففي الحرب الغاية النصر، والوسيلة تختلف بحسب أيديولوجيا كل طرف في الحرب، ولكن لا يوجد طرف في الحرب يُصرح قادته وحاكموه أنهم يقودون الشباب ليجعلوا منهم وقوداً لنزواتهم ورغباتهم في البقاء في السلطة، وكلما زاد دعم طرف من جهات مُستفيدة زاد النظام في غيَه، فظنَ أنه هو المخلص وأن تصحيح حركة التاريخ مهمة أناطتها له السماء...

في فيلم (الحدود الملتهبة) العراقي الذي أخرجه صاحب حداد (1983) ومثَل فيه: طعمة التميمي، وقاسم الملَاك، وهند كامل، وسامي قفطان، وهاني هاني، وكنعان علي، ومقداد عبدالرضا، تأكيد على بعد يشحذ الهمم في المعركة، ألا وهو البُعد القومي، بُحكم العداء التاريخي بين العرب والفرس، فالفيلم يُجسد فيه المُمثلون حرصهم على الدفاع عن قوميتهم (العروبية) واظهار عدوهم (الإيراني) على أنه (مجوسي) لم يؤثر في الإسلام (العروبي) في تبديل نزوعه التاريخي للزرادشتية، ولم يؤثر الإسلام فيه إلَا على مستوى الادَعاء شكلياً للإسلام لا الصدق في الانتماء.

انتهت الحرب العراقية ـ الإيرانية، ولم ينته الصراع بين الطرفين، وكان لإيران فرصة تاريخية في الاستفادة من غباء نظام صدام حسين حينما دخل الكويت وأعلن بأنها (المحافظة التاسة عشر)، وأظن أنه "هي القشة التي قصمت ظهر البعير" (صدام) الذي خرج مزهواً بنفسه راكباً حصاناً أبيضاً في ساحة (الاحتفالات الكبرى) ببغداد وقادة برتب عالية يمشون أمام الحصان وخلفه، يُحيطون به من كل جانب، فلم يتحمل الحُصان تلك الحفاوة فوقع في (الخيَة).

فكانت الكويت مقبرة جنود صدَقوا حماقة (النظام) وفصلوا بين الفارس والحصان، فصدقوا أن الفارس الذي يقود حصاناً يُمكن أن يقود شعباً، ولم يجلَ بخاطرهم أن قيادة الحصان تقتضي اتقان دراية بحركات جسدية فيها بعض اعمال للعقل، فيرتضي بك الحصان صديقاً له أو راكباً، ولكن قيادة شعب ومجتمع تحتاج لاعمال العقل أكثر من اتقان حركات الجسد، فسقط الفارس، وبقي الشعب.

لنعود لمفهوم الحدود، فبعد أن أدخل نظام صدام الجيش العراقي المُنهك من حربه الأولى مع إيران، شعر صداماً أنه بالفعل قائد تاريخي لأنه انتصر وإن يكن بدعم على امبراطورية كُبرى مثل بلاد فارس، فلا بُدَ أن تكون مهمته يسيرة في القضاء على إمارت ومشايخ لا تاريخ لها خارج تاريخ العراق قديماً وحديثاً!!.

دخلنا الحرب برغبة سلطان (أهوج) (أرعن) وخرجنا منها بنكسة (خيمة صفوان) بعد انتصار قوات التحالف الدولي وما يُمكن تسميته (حرب الإبادة الجماعية) للجيش العراقي الذي أمره (القائد الضرورة) بأن لا ينسحب حتى وإن سمع تسجيلاً صوتياً منه بأنه يطلب منه الإنسحاب، وبعض الفرق العسكرية آمنت بما تعهد به النظام بأنه لا يتخاذل ولا ينسحب، فبقيَ الأشداء المحاربون الصادقون في ثكناتهم العسكرية، ولكن (القائد الضرورة) هادن وتخاذل، فخُدع المؤمنون الصادقون كالعادة على طول التاريخ.

لا أخوض في مهانة (اتفاقية خيمة صفوان)، ولكن الذي وجدته بعد تغيَر الحال وتبدل النظام أن الأخوة الكويتيين لم يتخلصوا إلى يومنا هذا من سقاطات نظام أشِر هو نظام (صدام حسين)، وبعد أن حاول ساسة النظام الجديد أن يُظهروا لهم حُسن النية في كثير من اللقاءات والحوارات والتضحيات بأراض عراقية إلَا أن ما وجدته في مسلسل (حدود الشر) الكويتي من تورية ورمزية ليست خافية على المُتلقي والمُشاهد اللبيب أن الجرح لا زال لم يندمل بعد، وربما من حقهم ذلك، وعلى ساستنا تحسين الصورة، ولكن ليس من حق كُتَاب الدراما الكويتية والقيّمين عليها من مُممثلين ومُخرجين أن يُظهروا الشخصية العراقية في هذا المُسلسل على أنها شخصية انتهازية، شريرة، فاسدة، لا اعتبار لها لقيمة أخلاقية أو إنسانية.

ليُمعن النظر كل مشاهد حصيف بمشاهد حول الصراع بين (الخدَامة العراقية) التي تؤدي دورها (ميس كمر) والتي أُحسن الظن بها فأقول أنها لم تُدرك القصد أو (المسكوت عنه) في السيناريو، ولكن شخصيتها في المسلسل شخصية رئيسة، ولكنها لم تظهر في (أفيش) المسلسل او دعايته!!، اعتقد أنها تبحث عن قيمة (الأجر) الذي تتقاضاه وعن ديمونة عمل لها في الخليج الغني!!.

هي خدّانة تزوجها زوج (حياة الفهد) الفنانة الكويتية التي يُحبها أهل العراق، ولكنها لم تكن موفقة في اختيارها لهذا الدور إن لم تكن تدري، وإن كانت تدري فالمصيبة أعظمُ.

حكاية المُسلسل أن هناك عائلةً كويتيةً فيها مشاكل بين الزوج والزوجة، وللزوج مزرعة في (البصرة) يُديرها فلَاحون عراقيون، ولأن البصرة حدودية، لذا أظن أن كاتب المسلسل وضع بقصد عنوان المسلسل (حدود الشر)، والمقصود به أن (حدود الشر) هذه هي حدود العراق التي تُحيط بالكويت!، وبعد تردد يتزوج التاجر الكويتي من ابنة الفلَاح العراقي التي جُلَ همَها كيفية تخريب حال هذه العائلة ونهب ممتلكاتها!!، وبعد زواجها تجلب معها أختها وأخيها باشارة رمزية على أن العراقيين رجالاً ونساءً، أخوة وأخوات، إنما هُم نهابون سلَابون، لتجد (حياة الفهد) تستخدم أقذع الألفاظ النابية في توصيف الوافدين العراقيين!!.

الكلام يطول، ولكنني أظن أن مثل هكذا تشجيع لدعم عمل فني يُسيء رمزياً لشعب وتاريخ عمقه الثقافي وسع الكويت وكثير من أرضي الخليج أرضاً وحضارة لهو اساءة ضمنية للتاريخ مجتمع الخليج بأكمله...

لنسعى جاهدين حكومات وشعوباً للعمل على ترطيب أجواء (الحدود) كي لا تكون (مُلتهبة)، وعلى تقليل نزعة الشر الكامنة في نفوسنا بفعل سياسات ماضي لنجعل من (حدود الشر) حدود خير تلتقي فيها الأطراف بمحبة لتنثر تعالقها العشائري والثقافي بين شعبين في تاريخهما من المشتركات الثقافية والحضارية (إيران والعراق) و (الكويت والعراق) ما يُمكن أبناء هذه الشعوب وساستها من اقامة جسور للتواصل لا للقطيعة.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم