أقلام ثقافية

العازف المنفرد

959 ناثينالتخطف السيارات من جانبه مسرعة، ومن فوقه تهدر الطائرات مدمدمة، وهو يمسك بعناد كمانه المكسر محاولاً عزف لحن كلاسيكي جاد هو بالكاد مسموع في مدينة لوس أنجلس الصاخبة تلك. يمر به (ستيف لوبيز) الصحفي العامل في أهم جريدة في الولاية، الـ(لوس أنجلس تايمز)، والذي يبحث عن موضوع  يكتب عنه مقالاً، فالإقبال على النسخة الورقية للصحيفة في انحدار دائم والعاملون باتوا مهددين بالإقالة تباعاً وهو غير مستبعد من ذلك. يمر به سريعاً بعض الشيء لكن منظر (ناثنيال)، هو وكمانه، يجذب النظر. يبادله بعض الكلمات فيكتب عنه مقالة تلاقي نجاحاً منقطع النظير من القراء وتفاعلاتهم.

يتفاجئ ستيف بنجاح المقالة فيرجع يبحث عن ناثنيال ويجد أنه ضليع بنظريات الموسيقى وتاريخها فيصغي له، لكن كلام ناثنيال غير مترابط في بعض الأحيان. من الواضح أنه مريض نفسي. يحدثه عن مدرسة (جوليارد) للموسيقى في نيويورك، تلك التي درس فيها. تتكرر اللقاءات ويتورط ستيف بناثنيال ويحاول أن يلملم أطراف قصته. يكتب مقالات متتابعة عنه ليجمع قصة كل تلك المقالات في كتاب.

إن الأسلوب اللغوي للكتاب أمريكي حقاً، فالقصة غير منمقة، وخامة حتى في أسلوبها. الجمل قصيرة ومباشرة  وهو يستخدم صيغة المضارع حتى وهو يتكلم عن الماضي وذلك يعطي إحساساً واقعياً يجعلك تعيش الحدث معه وقت القراءة وكأن ما حصل يحصل الآن. أليست أمريكا من الدول الحديثة نسبياً والمركزة على الحاضر؟ وتلك الجمل القصيرة السريعة الوقع الخالية من التزويق ألا تشبه وصفات الهامبرغر والأكل السريع؟ يصرح كاتبها بانه حتى في عمله الخير لناثينال المشرد هو يحاول الحصول على فائدة مادية فكل ذلك جعل مقالاته تلاقي استحسان القراء وبالتالي نجاح الجريدة وحفاظه على عمله. نعم إنها قصة من أمريكا المادية!

لكن ذلك الميل بالتركيز على الحاضر وتسطيح التاريخ، سيعمقها ناثنيال بتاريخه الخاص، وتلك النزعة البرغماتية المقيتة ستحيلها تلك الصداقة الفريدة بين ستيف وناثنيال الى عواطف ودموع، وتلك البرودة المادية ستتسامى عن نفسها بتلك الألحان التي يعزفها ناثنيال ليهبها تلك الروح التي فقدتها وذلك الدفئ.

صدر الكتاب بعنوان (العازف المنفرد The Soloist) عام ٢٠٠٨، وسرعان ما ترجم للبرتغالية وللألمانية وللإسبانية وللپولونية، وفي عام ٢٠١٠ للتركية وللغة الليتوانية. تحول إلى فلم وهو ربما الشيء الذي ساهم في إنتشاره أكثر، رغم الإختلاف الواضح بين سيناريو الفلم وبين نص الكتاب نفسه، إلا أن الفلم نقل الرسالة العامة للكتاب بلا تفاصيل، وأضيف على السيناريو تفاصيل سينمائية أمريكية لتسرع من إيقاعه.

أما الكتاب نفسه فهو بمثابة درس في الصحافة وفي الطب النفسي، وفي الموسيقى كذلك. فسيأخذنا الكاتب معه في يومياته في الصحفية الشهيرة التي يعمل بها، وسنعيش معه تلك الأزمة التي تعاني منها الصحافة الورقية في كل العالم على ما يبدو. وسنحير مع تفاصيل الكتاب في إيجاد حل لتسول ناثنيال المريض بالفصام والذي يرفض مراجعة الطبيب النفسي، فكيف سيكون الحل؟

يعلم ستيف أنه لن يستطيع إلى شفاء ناثنيال سبيلا، لكن ذلك لا يعني أن يقف مكتوف اليدين. عليه أولاً أن يفهم هذا المرض. سيأخذنا معه في محاولاته لتبسيط فهم مرض معقد مثل مرض الفصام. أعراضه، والأدوية التي ينبغي إستخدامها، وطرق التعامل مع المريض. بعد كل ذلك، وحين يتأكد من أن الأمل في الشفاء ضعيف، يبدأ بالإنتقال شيئا فيشئاً لمناقشة مواضيع (الطب النفسي الإجتماعي)، وهو ذلك التخصص المعني بالحلول الإجتماعية للمرض النفسي، وهو لا يقدم كل تلك المعلومات بشكل نظري، وانما يذكر تفاصيل ذلك من خلال قصة ناثنيال، إنه يجعلنا نعيش مع ناثنيال مأزق الطب النفسي، فردياً وإجتماعياً.

حين يلجئ ستيف لـ(ستيلا مارش)، وهي أم لمريض نفسي وناشطة إجتماعية من أجل تنوير الناس بشأن المرض النفسي، يحكي لها عن صعوبة ما يواجهه مع ناثنيال طالباً نصحهها، تجيبه بأن ناثنيال لم يكن له صديق من قبل. ربما كان ستيف يبحث عن نصيحة أكثر وضوحاً من تلك. إلا أنه وبعد صفحات كثيرة من الكتاب، وحيرة وتقلب في القرارات، يرجع ويسمع نفس الكلمة من طبيب نفسي ينصحه بأن يرافق ناثنيال ويقول له (كن صديقه).

يدرك ستيف أن عليه أن يكون واقعياً في مسعاه، وحذراً. لا يمنعه ذلك من الخروج في الشارع ليلاً والمبيت مع ناثنيال المشرد على الرصيف. يكتب لنا من هناك عن يوميات الأحياء الفقيرة لمدينة لوس أنجلس حيث محاربي حرب فيتنام السابقين ومدمني الكحول وممارسي الدعارة، ومحاولات البلدية والشرطة وعمال الصحة أداء واجبهم في تقديم المساعدة، وهي مهمة صعبة تكتنفها الكثير من الإخفاقات، والقليل من النجاحات، ويبقى ستيف واقعياً، وغير مجاملاً، ليكسب عداء البعض، خصوصاً من المسؤولين، وحب الكثيرين، من الناس العاديين خصوصاً.

وبين أزمة الصحافة وتسول ناثنيال وتخبّطه أحياناً في جمل غير مفهومة، وتلك الدروس عن تاريخ الموسيقى ونظرياتها التي يتفهوه بها لستيف، بين كل تلك الأمور تنشأ صداقة فريدة، فيتعرف كل منهما على عائلة الآخر. كان ستيف دائماً ما يحكي لناثنيال عن المقالات التي يكتبها وعن تعليقات القراء، ويعطيه نسخاً منها ويحكي له عن نيته في أن يكتب كتاب عن قصتهما. يوافق ناثنيال على كل ذلك ويصيران شريكين في هذا الكتاب، كتابهما، كتاب كل من يهمه أمر الصحافة والمرض النفسي والموسيقى، لكن أيضاً من يريد أن يحاول فهم  معنى من معاني الصداقة العميقة في عصرنا المسطح السريع هذا.

 

سامي عادل البدري

 

في المثقف اليوم