أقلام ثقافية

نِداءُ مِسَلَّةِ بابِلَ

سحر شبرإنَّ الزمنَ لَيْخطُو، وبخطوِه يُعْدي على الأشياء عَدْواً قاسياً يُطْمِسُها خَلا تِلْكَ الأفَكار الأصيلة والمآثِر الرفيعة الرابية على تاريخِ الأُمم وأمجادِ الأقوامِ، تُقاوِمُ الأممُ ذات الصدى الحضاري عُتُوَ النسيان، وتدرأ عن مفاخِرها صليلَ الذوبان. وزعمُنا أيَّها القارئ الكريم أنَّ أسطورةَ المستقبل المُشْرقِ قد استطابت نَفحَ الماضي السحيق، ووَصلَتْهُ بالحاضِرِ كَيْما تَتَقهقر الحضارة أمام سيلانِ الزَّمن. وليس مِن ضَعفٍ بِنا إذا اعترفنا نحن أهل الرافدينِ بمعاونةِ سلطةِ الزمن على إمِّحاء شريعةِ الطِّين والحَجَر حيث بابِل، وعلى عَرْشِها تربّع المَلِكُ حَمُورَابِي سنة 1794 ق. م _ ويعني اسمُه: إله الشَّمسِ العظيم _ حاكِماً قوياً ضمَّ الدويلات المجاورةَ التي تنازِعُه على مملكتِهِ، وذا عَزْمٍ على توحيدِ أَشْتات الناسِ وقُوّادِها حتى جعلَ الآموريين _ بلاد الشام _ وسُومَر وأَكَد، بَل جهات العالم الأربع متحدة تحت رايتِهِ ؛ وَحَكَيماً ساسَ مملكتَهُ بِوَضْعِ تشريعات إدارية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية تهذيبية، وعَسكرية تنظيمية بَلَغَت مئتين واثنتين وثمانين شَريعةً ، وَنُقِشَتْ على حجِرِ ذي تَشَكُّلٍ مستطيلٍ، فَسُمِيّت مِسَلَّة حَمورابي. كانت قَد دُوِّنت باللغةِ البابليةِ القديمةِ، وبأسلوبٍ شعري معهودٍ يومئذٍ لدى الناسِ. ابتغى بها واضِعُها توثيقَ تجربته الفريدة في حُكمِهِ، وتحرّي المَنْطِق في عَمَلِهِ، فألَّفَها من مُقَدِّمَةٍ شارحةٍ أسباب تشريعه هذه الأحكامِ، ومن مُتونٍ تحوي المواد التشريعية الشاملة لكلِّ ما يلزمُ الفرد ومجتمعه في حياتِهِ، ومِن خُلاصَةٍ رَجا بها حمورابي أن تعاقِبَ الآلهةُ كلَّ ذي نفسٍ تأبى الامتثال لأحكامِهِ. وكأنِّي بذلكَ العاهلِ العظيم يرجو أحفادَهَ الذينَ يتنشَّقونَ نسيمَ آفاقِهِ، ويفترشونَ أديمَ مَهدِهِ؛ أَن يَقْسِطوا عدلاً في رَعِيتِهِ بدلاً من التغنّي بمجدِ شريعتِهِ، ويخشوا عاراً بين التواريخ على سُلالتِهِ إذا كانَوا خُلَفَاء سُرّاقاً على دولتِهِ، ويوتروا الساعدَ الدَّنِفِ بمُدُاهِمُ نَفْسِها، حتَّى يَحقَّ لهم القولُ: إنَّنا أبناءُ أولِّ وُضّاعِ القوانين في العالم، إنَّنا أبناءُ حَمُورابي. وهل تُنْكِرُ _ أيها القارئ الآخر الكريم _ قِصةَ بنائنا الحضارة الزاخِرة بالآداب والعلومِ في غابِرٍ مؤتلقٍ وَلَّى، وَقِصةَ هدمِنا إياها في حاضِرٍ مُظلمٍ متصلٍ بِعقمِ الإشراقِ في مستقبلِنا؟!

 

سَحَر شُبّر

 

في المثقف اليوم