أقلام ثقافية

الكُوفَةُ كِنَانَةُ العَرَبِ

سحر شبرالمُدُنُ كَفَاتِناتِ الجمالِ أَنَّى نَظَرْتَ إليهنَ، قَبَسْنَكَ  بِشُهُبِ فِتْنَتِهنَ، وأيانَ حَدَّقْتَ في أنحائِهنَ أَرْتَعْنَكَ تحت ظلالِ رُسُومِهنَ. والكُوفَةُ شقيقةُ أولئك اللواتي وَصَفْتَهنَ لَكَ؛ اسْمُها عَربِيُّ الحروفِ، وشريفُ الدلائل، وشأنُها  حيثُ جُند المسلمينَ اجتمعوا في قُبتِهم العراقيةِ الكُبرى، ودارِ هِجْرتِهم. وكانت قبلَ ذلك مَنْزِلَ النبيِّ نوح عليه السلام الذي بَنى مسجدَها الأعظمَ. حلَّ سَعْدُ بن أبي وقّاص وَكَتَائِبهُ بها في القرن السابع الميلادي، وهي لَمّا تَزْل تُرْبَةً حمراءَ، اختلطَ رملُها بالحصى، فاستدارَ واجتمعتُ الناس بِه ؛ وهي جُبيلٌ سُمِّي كوفان سَهَّلُوهُ وخَطَّطُوهُ لينزلَهُ الجُند. وها تَلكَ المَليحة العربية تتنوّعُ معاني اسمها وتتعددُ مرامي وَصْفِها، بيدَ أَنَّها جميلة لا تَبزَّ السنونُ طراوةَ مَجْدِها، ولا تَزيدها إلا أَلَقاً مُستمَداً من قَاطِنيها العرب الأُصَلاء من بني ربيعةَ و مُضَرَ ونزار اليمن. مَرَقَ نهرُ الفراتَ قِوامَها فَأَينعَ البساتين فيه، وأخصبَ تُرابَها، وأَلْطَفَ هواءَها. مَدينةٌ بِكْرٌ حَسْناءٌ لا تُعْدَمُ قولَ الحُسّاد، ونَعْتَ الأوغادِ، وشَرَّ الإفساد، اتَخَذَها أميرُ المؤمنينَ علي بن أبي طالبٍ عاصمةَ خِلافَتِه سِتاً من السّنواتِ، وهو عالِمٌ بِأيِّ أرضٍ سيصلُ قريشَ والمدينةَ، وعازمٌ على أَنْ تنهلَ دارةُ العراق الأولى من فِيضِ الإسلامِ وغورِ التأريخ. أَجل، فتاةٌ بعيدةُ المنالِ تهوى ثوراتُ الرجال الغِضابِ رَدَّها إلى حِماهم، فكانت أن التَهمَتْ كثبانُها سيوفَ القَرامِطَة البتّارة، ولم يطمسْ غُرَّتَها ثأرُ الحجاج بن يوسف الثَّقفي ولا ذُحْلُ المختار بن أبي عُبيدة الثَّقفي.

وما تستكفي مَلِيحةُ جنوبِ العراقِ أَن تَتَدَلَّهَ بجمالِها على سائر الأمصارِ العربية، وهل مِثلُها كِنانةٌ حَوَتَ أهلَ العلمِ والقراءة بالقرآنِ وفقههِ والعربيةِ وَشِعْرِها، حتى غَدَتْ مدرسةً لا يتعداها كلُّ دارسٍ لتلكَ العلومِ، ولا يمُرُّ مُنقِّبٌ عَنْ أصولِ التَمدن الإسلامي بها مَرَّ الكِرامِ فقط؟ في مَسْجِدها طلبَ عليُّ بن أبي طالب الحقَ للمظلومِ، وحكمَ بين أهلِها بالعدلِ حتّى قُتِلَ في محرابِهِ. وفي مسجدِها أيضاً قَرأَ الترمذي القرآنَ ومثله البخاري وأبو داوود السجستاني، وانتحى الكسائي أحد أروِقَتِهِ، لِيعلِّمَ تلميذَهُ الفَرَّاء النَّحوَ العربيَّ، وإليها قَصدَ أبو العباس ثعلبُ تاركاً مدينته بغداد، ومنها انبثقت شُعلةُ كيمياء جابر بن حيّان. صَدَحَت أيامَ الدولة الأموية والعبّاسية أصواتُ شعرائها: الطِّرماح ، ودِعْبِل الخُزاعي، والكُمَيْت، وأبو العَتاهِية، وشاغِل الناس بشعرهِ أبو الطيب المُتنبي في أبهى قراها: الغاضرية، والخورنق، وبانيقيا. جَرى المِدادُ في صحائفِها، فَرَسمَ حروفاً ذوات زوايا حادّةٍ ورؤوسٍ مجسمّةٍ كأنَّها أفاعي أُطلِق عليها الخَط الكُوفِيّ.

أيُّها القارئُ الكريمُ  إذا أَصْغَيتَ إلى نداءِ الرَّوْعةِ ، ولبيتَ دعوةَ البَهاءِ وَقَصدْتَ مليحتَنا، فَسَتَألَفُها، وَقد ظَاهَرَتْ مدينةَ النجف شريكتُها في الجمالِ وجارتُها في التاريخِ ، وترى عَينُكَ الفراتَ ضمَّ حدائقَها إلى جهتهِ الغربيةِ، وروى بساتينَ نخيلها وزروعِها بِعذْبِ مائِهِ. ولعلَّي أراكَ وأنتَ تطلبُ إلى أحدِ شُبانها أن يلتقطَ لك صورةً مجليةً زِيَّ رِجالها الذين اعتمرتْ رؤوسُهم بِكُوفياتٍ بيضاء خُطَّت بأسودَ الخيوط، أولئك الذين أَبوا أن تطأَ أقدامُ الغاصِب البريطاني مِهادَها، فَبَرَؤا بثورةِ العشرينَ شَكاتَها.

وها أنتَ هنالِكَ على شاطئ الكوفة الضَّيقِ تَشُمُّ عَبَقَ النسيمِ الملتاثِ برائحة الطين الأسمرِ أوانَ غروبِ الشّمسِ، وتسمعُ أغنية المَلّاحِ، وهو يترنمّ :

مَرينه بيكم حَمَد

وأحنه بقطارِ الليل واسمعنه دك إكهوه

وشَمينه ريحة هيل ... .

أما عِندَ الصُّبحِ الباكِرِ، فلا يَفُوتنَكَ مذاقُ كِسْرَةِ الخبزِ الذي فرَّ من لهبٍ سَجَّرتْهُ يدانٍ سمراوانٍ دَافا الفرحةَ والعَبْرَةَ بالكَيمرِ وعسلِ التمرِ، تلكَ يَدا العراقيّة الكوفيّة اللتانِ تحملانِ كِنانة العروبةِ، وتَمسَحانَ عن وَجهِ المَدينةِ غبارَ الخَرابِ الذي اعْتَلَقَها اليومَ.

 

سَحَر شُبَّر

2019 شَنْغَهاي

 

في المثقف اليوم