أقلام ثقافية

بغداد في عيون الجواهري

شكل النتاج الادبي خطاباً ذا حدين: الأول يرتبط بالمجتمع، والآخر: يرتبط بذات الشاعر ومداخلاته النفسية؛ لأن الخطاب سلاح مجاني، وعن طريقه تتحقق السيادة المطلقة لموظفه بشرط الحكمة، والعقل الصائب في طريقة توظيفه؛ لأنه سلاح الاقناع والمحاججة.

وعند التعمق في ابداعية (الجواهري) نتلمس النفس الوطني، والانتماء، والهوية المعلنة لعراقيته، وهذا ما جعل قصائده ارثاً حضارياً ابدياً، وهذا ماحققه النتاج الادبي العراقي بصورة عامة، والنتاج الجواهري بصورة خاصة.

إذ جاءت اشعاره بصورة هيئة ترابطية تستقر في الاذهان، ولاتخرج منها، لنجد ذاتنا امام علاقة ترابطية بيننا وبين النص الشعري؛ لأن التجربة الشعرية هي تجربة كتابية، وتجربة لغة، وتأتي لتتحول إلى المادة الأساس للوجود الثقافي، لذلك فإن لكل اديب طريقة خاصة في توظيف لغة قصائده.

إِنَّ توظيف التورية في قصائده هي الثيمة البارزة في اشعاره اغلبها، وجاءت باوجه عدّة، وهي ثورة على الممنوع، وثورة على السلطة التي تكتم على الأشياء، مما مهد لأخذ مساحة كبيرة في أشعاره، إذ تجاوزت أشعاره الممنوعات، ولامست موضوع المواربة ملامسة مباشرة حيناً، وقاربته مقاربات مبطنة حيناً آخر . 

يقول:

خذي نفسَ الصبا " بغداد " إني

بعثتُ لكِ الهوى عرضاً وطولا

يذكّرُني أريجٌ بات يُهدي

إليَّ لطيمُه الريحَ البليلا

هواءك إذ نهشُّ له شَمالاً

وماءك إذ نصّفِقه شَمولا

ودجلةَ حين تَصقُلها النُعامى

كما مَسَحتْ يدٌ خداً صقيلا

وما أحلى الغصونَ إذا تهادت

عليها نُكَّسَ الأطراف مِيلا

يُلاعبها الصِّبا فتخال كفّاً

هناك ترقِّصُ الظلَّ الظليلا

ربوعُ مسرَّةٍ طابت مُناخاً

وراقت مَربعاً، وحلَتْ مَقيلا

ذكرتُ نميرها فذكرتُ شعراً

"لأحمدَ" كاد لطفاً أن يسيلا "

وردنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ

وزرنا أشرفَ الشجر النخيلا

" "أبغدادُ" أذكري كم من دموع

أزارتكِ الصبابةَ والغليلا

جرينَ ودجلةً لكن أجاجاً

أعدن بها الفراتَ السلسبيلا

"ولولا كثرةُ الواشينَ حولي

" أثرتُ بشعريَ الداءَ الدخيلا إ

في مثل هذا النص، يمكن أنَّ نرى الأفصاح المباشر، إذ ارتبط الحب بالسياسة، ليفاجئنا الشاعر في نصه هذا بتوظيف (بغداد)، متوارية و متداخلة مع الفعل الإيروتيكي نفسَ الصبا " بغداد " إني

بعثتُ لكِ الهوى عرضاً وطولا).

إذ تظهر لنا قدرة الشاعر في السيطرة على فضاء المعنى، وفي القدرة على توظيف الفعل ؛ وذلك حين يقول: (يذكّرُني أريجٌ بات يُهدي)، إذ كسر الحاجز بمعادلة رياضية، وهي معادلة تشي بالاستمرار أمام صورة تشي بالقسوة، في تصويره (هواءك إذ نهشُّ له شَمالاً

وماءك إذ نصّفِقه شَمول)، والأفعال الواردة في النص (يذكرني، تصقلها،تهادت، يلاعبها، ترقص، يسيلا) دلالة للحدوث والتجدد والاستمرار، فالنص أمام مخاتلة لنقد السلطة، حيث تبدأ ذات الشاعر في احتلال موقعها داخل النص الشعري بعيداً عن المخاتلة، فنجد الشاعر يهدف إِلى الكشف عن الممارسات السياسية، عن طريق توظيفه لفظة (يذكّرُني أريجٌ بات يُهدي)، لتسرد النص، ولعل هذا الكشف بدوره يكشف حقيقة مواربة الشاعر لحدود الحب، والنقد المعلن للفعل السياسي الضاغط ؛ لأن الحب والعشق في النص، جاء ليبين هوس الشاعر ببغداد، التي قد تكون حبيبته،أو بغداد الوطن، والهوية، وسواء كان الاحتمال الاول، أو الثاني، فكليهما يحققان نصاً شعرياً يلامس المكنونات الحسية لذات الشاعر، وذاتنا القارئة، فالمتتبع لأشعار الشاعر يجده لم ينفرد بأمرأة واحدة، بل ذهب ليطلق العنان لأحاسيسه، وقصيدة ( يادجلة الخير) واحدة من هذه القصائد .

المترادفات ( خذي/ بعثت، وردنا/ زرنا، عرضاً/ طولاً، شمالاً / شمولاً، الظل/ الظليلا... الخ).

فالنص يحاكي الواقع العراقي بالدرجة الأولى و العربي بالدرجة الثانية .

أضيف، أن الجواهري قد اسس لذاته ثيمة شعرية خالدة، ناطقة للمنوع، شامخة في الوجود، ناطقة لكل مالم ينطق به في زمانه، فضلاً عن ذكائه في توظيف كلمة (بغداد)، التي تجمع بين الحبيبة، والبلاد، ونحن لانعلم ماذا يقثصد، وهذا مايحقق للنتاج الشعري حظوره

 

بقلم: د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم