أقلام ثقافية

ما هو الخطأ في حياة سيلفيا بلاث؟

صالح الرزوقجين إينيس

ترجمة صالح الرزوق


ربما هذا سؤال محير. هناك من يترنم بسؤال مبرر وهو “ما هي طبيعة الحظ الطيب الذي صادف بلاث؟”. فقد تركت وراءها مجموعة أشعار مؤثرة، ورواية، ومهنة أكاديمية متميزة، وزواجا بشاعر بريطاني معروف، وولدين. ولكن حياتها لم تكن مشرقة بشكل كامل وكانت وحيدة وغريبة. وقصر حياة بلاث، وانتحارها، قاد معظمنا للتساؤل حول أسباب هذا الموت التراجيدي.

 ربما كانت بلاث امرأة من فترة ما بعد 1950،  وواحدة من أوائل النساء في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ممن عشن حياة تتصف بالتوتر والإبداعية والنجاح. إنما ماتت مبكرا نتيجة الإضرار المتعمد بالذات “نزوع تدمير الذات”.  ويمكن القول إن الفنانين الحساسين المكبوتين يتعاطون العقاقير بإفراط. ولا سيما الذين يعانون من ظروف عالم قاس، ومتطلب، ومزيف ومحير - ومنهم الشعراء والموسيقيون والرسامون من كل الأشكال والأنواع -  ولدينا سجل حافل بأسماء فنانين توفوا بسبب العقاقير مثل جيمي هيندريكس وجينز جوبلين، وأيضا مارلين مونرو والشاعر جون بيريمان، وغيرهما من النساء والرجال الكحوليين.

وفي نظر المجتمع الحديث توجد علاقة بين تدمير الذات و الظروف الاجتماعية. وبين حالة والذهن الإنساني والظروف النفسية، وبين أخلاق الأفراد والظروف الخاصة. كل ذلك يؤثر على الخسارة المبكرة لروح الإبداع. وفي حالة سيلفيا بلاث، تجتمع كل هذه الحالات بشكل من الأشكال. السؤال لا يزال: لماذا؟. إنه لا يسعنا تقديم إجابة واضحة وعلمية. لكن أحد أحدث الأساليب لمقاربة الاضطراب العقلي هو الفيزيولوجيا. ومن المعتقد الآن بين فئة واسعة من الأطباء المحترفين أن الاضطرابات النفسية الخطيرة، سواء هي ذات أعراض دائمة أو مرحلية، يسببها خلل في توازن كيمياء الدماغ و/أو الجهاز العصبي. وهذه الأعراض المختلفة يمكن أن تنتقل بالجينات أو بالكروموزومات. ومن المعتقد أن كآبة الخبال والشيزوفرانيا التي تصيب بعض العوائل (من الجد وحتى الأحفاد) يمكن علاجها بالكيماويات مثل الليثيوم على أمل تحقيق نوع من التحسن.

غير أن فكرة الاضطراب العقلي الذي يمكن توريثه تسبب الرعب والقلق عند كثير من الأمريكيين، ولا سيما وأننا نؤمن بالتحليل النفسي لعلاج المشاكل العاطفية. و لنتذكر كمثال فيلم إنغمار بيرغمان الكلاسيكي “من وراء زجاج داكن”، وهو عن امرأة شابة تصاب بالجنون، ثم نعلم أن والدتها توفيت في مصحة للمجانين. لقد أدرك الاسكندنافيون من فترة طويلة أن الجنون يمكن أن يورث. وبدأت أمريكا بتقبل هذه الفكرة. ولكن مهما اختلفت الأسباب علينا أن لا نعمى عن العلاج الذي نسيطر به على الحالة. كالتحليل النفسي والعلاج العقلي بالعقاقير.  وكذلك الصدمة الكهربائية. وهناك اختبارات نقص لغذاء. فهي توضح لنا النقص الذي تعاني منه أجسام المرضى، و إذا كان من الممكن تعويضها بهدف استعادة نشاط وحيوية العقل. والآن يقوم بعض الأطباء بتحليل الشعر لمتابعة لمعرفة نوع النقص في العناصر الغذائية. و نحن في الوقت الراهن نتابع حركة الغذاء اللازم للصحة وو على الأخص فيتامين سي وفائدته في منع الإصابة بالبرد، أو حتى السرطان. ومن الواضح أننا نحتاج للمزيد من المعطيات الطبية. وحتى ذلك الحين، يمكن للأشخاص الحساسين أن يعتنوا بأنفسهم وأن يتبعوا طرقا للعلاج والاحتفاظ بالتوازن بين الجسم والعقل.

كانت هذه المقدمة ضرورية لنعاين آخر طور من حياة بلاث - حينما كانت مريضة جديا بالإنفلونزا لبعض الوقت، وحين استخدمت العقاقير لتتمكن من متابعة عملها أو لتجهز نفسها للنوم. فقد تبين بعد موتها أن جسمها لم يكن بحالة توازن ولا بظرف صحي ملائم. والسؤال: هل كانت تأكل وتعمل بشكل مناسب؟.  ليس لدينا أي دليل.

لكن الطب النفسي اهتم بما إذا كانت بلاث مكتئبة هوسيا، أو مكتئبة في أوقات محددة وهوسية في فترات الانتاج الإبداعي فقط، ولدينا تأكيدات أن البنت في (الجرس الزجاجي)، وربما بلاث نفسها، تعانيان من كآبة داخلية، وهي حالة يعتقد أنها مرض ولادة، أو شيء يرافق الإنسان منذ لحظة ميلاده. و لكن التقرير النهائي للحالة الصحية ربط هذه الحالات بجرعة الحبوب الزائدة. ووجد أن الحالة لم تكن، قبل ذلك، رضية بما فيه الكفاية لتسبب ردة فعل في حياة إيستير (شخصية في رواية - الجرس الزجاجي-)، وأن الأعراض التي وردت في الرواية ترسم صورة لشخصية مصابة بالكآبة  لفترة طويلة. وقد صدمت شدة الكآبة في حياة إيستير القراء، ولاحظ أحدهم أن كآبة إيستير تعبر عن كآبة الكاتبة أيضا.

ويتلخص جانب هام من مشاكل إيستير/سيلفيا العقلية، كبنتين شابتين، في أن سلوكهما أخذ شكل الانسحاب من الحياة ثم الكآبة الانتحارية. وبمقارنة هذه الحالة مع أمثلة غيرها من حالات تصيب فئة الشباب الأذكياء المضطربين، يمكن أن نلاحظ أن الشباب الذكور، الذين يعانون من مشاكل، يتصرفون مع المجتمع بطريقة عدائية، وأحيانا تأخذ شكل جناية هدامة.

أما  شخصيات بلاث المؤنثة، إيستير وجوان، كانتا بالعكس من ذلك.  لقد توارتا داخل نزوع تدمير الذات. 

ويمكن مقابلة هذه الحالة بحالة أليكس، وهو شخصية من فيلم نرويجي عنوانه “يقول من؟” ويعود لعام  1978. في هذا الفيلم الاحتجاجي، الذي كتبه وأخرجه وقام ببطولته بيتر فينارد، كان الشاعر الشاب غاضبا من جور المجتمع ومن عجزه على توفير مكان جيد له في العالم. وكان أليكس مثل إيستير، ذكيا جدا وحساسا، غير أنه اختار القتال. ولذلك انتهى به الحال إلى مستشفى للصحة العقلية. وليس مثل إيستير التي حبست نفسها في جرسها الزجاجي.

وهنا أيضا نذكر الفيلم السويدي “ماما: حياتنا الآن”  لسوزان أوستين الذي يعود لعام 1983، والذي يستعمل مفكرة أم الآنسة أوستين، المكتوبة بين 1939-1944. في هذه المفكرة التي تشبه لوحة عن مشاكل الشباب،  تكتب جيرد “ماما” الفنانة ذات المركزية العقلية الشديدة عن “جرس زجاجي” تشعر أنه يحيط بها. وعندما سئلت أوستين عن هذه الصورة وعن المفكرة الغامضة والتشابه الفاضح مع أحداث رواية بلاث (رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين الكاتبتين)، كان جوابها كالتالي:”لا بد أن هذه حالة مشتركة وشائعة تمر بها النساء”. ومهما كانت أسباب  كآبية “الجرس الزجاجي” لا يمكن أن تعلم إذا كانت النساء تعانين منه بشكل مختلف عن الرجال. ولكن بالتأكيد هاتان المرأتان قدمتا لنا تفاصيل لا تنسى عما يمكن أن يشعر به الإنسان إذا كان محبوسا “جرس زجاجي”.

إن مصاعب تحديد الشيء الذي ذهب باتجاه خاطئ في حياة سيلفيا بلاث تجدها، طبعا، في تعقيدات سيلفيا بلاث نفسها، وكذلك في أسلوبها، وبالأخص ظرفها كامرأة. ومصاعب معرفة المرض العقلي في كل حال موجودة في مصاعب تحديد الأسباب، وبدرجة أقل في مصاعب العلاج. وفي أحد الأيام، سيتوفر اختبار لتحديد الخلل الكيميائي في الجهاز العصبي والعلاجات الخاصة لتصحيح الجسم والعقل. وحتى ذلك الحين، علينا النظر لحياة بلاث كما لو أننا ننظر لحكاية حزينة ونقول إنها كانت موبوءة بالمشاكل وبقليل من الحظ العاثر. وسنسأل أنفسنا: لو كانت لها أم أخرى، ولو أن والدها لم يمت وهي شابة، ولو كان معها صديقات إناث أكثر إيجابية، ولو تلقت علاجا طبيا ونفسيا مختلفا، أو غذاء آخر، هل ستكون على قيد الحياة اليوم؟. مثل تلك التراجيديا بأسبابها لا بد أن تقودنا لخاتمة مجدبة. ولو بدلنا أي ظرف مما سبق، ربما لم تقع المأساة. وهكذا يصبح السؤال  كما يلي: إن  كان يوجد علاج لعدة أشكال مختلفة من الكآبة، هل سيلغي وقوع تراجيديا الانتحار؟.ربما لا. ولكن قد يبدل ويطيل من حالة المعاناة العاطفية وحياة الأشخاص الحساسين. وعموما في الوقت الحالي، لسوء الحظ، لا يسعنا اكتشاف ما هو الخطأ الذي أصاب حياة بلاث. ولا يمكننا أن نكتشف بالضبط ما هي دوافع نتاجها الإبداعي. وتبقى معنا اللوحة، وأحيانا الصورة العامة، لحياتها، بنهايتها المبكرة.بالإضافة  لنشاطها الفني والشعري.

 

...........................

المصدر

   Jeanne Inness. CliffsNotes on The Bell Jar. 21 Jan 2020

 

 

 

في المثقف اليوم