أقلام ثقافية
لغتي أولاً..
لغتي آخرا
هناك أكثر من قانون في المواثیق الدولية یدعم ويطالب التعلیم باللغة الأم. كنموذج نشیر إلی المبدأ التاسع من إعلان حقوق الطفل لعام 1959 الذي ینص علی حق الطفل في تلقي التعلیم بلغته الأم بلا استثناء وأن یتمتع بهذا الحق دون أي تمییز بسبب الجنس أو اللون أو الدین أو الأصل القومي أو الاجتماعي. غایة هذه المواثیق رفع المستوی الإدراكي للطفل وحصوله علی كل الفرص المتاحة له دون عقبات أو أزمات النفسیة في عملية التعليم في البيت والمدرسة.
نتائج دراسات عديدة تؤكد أن لا يجوز تعلم لغة ثانية على حساب اللغة الأم. فهذا الأمر يهدر مواهب الطفل المعرفية، ولا بد من إعطاء الأولوية لتعليم اللغة الأم في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل. إذ هي الفترة الحساسة حیث یتم فیها إتقان اللغه الأولیة وتكوین الهویة السليمة، وقد نبه التربویون بدءا من أفلاطون وحتی أعمدة التربیة الحدیثة إلی ضرورة الاهتمام ببيئة الطفل في سنواته الخمس الأولی وذلك لسرعة تأثره بما یحیط به وبراعته في ما یسمعه من الألفاظ والعبارات وتقلید ما یراه من حركات وإيماءات. فعندما یلتحق الطفل بالروضة أو المدرسة یكون قد تعلم فنون التواصل بشكل أفضل متكئا علی لغته الأم . (سلیمان أحمد،2014 :8). ویبدو أن ابن خلدون كان متیقظا لأهمیة مرحلة الطفولة في ترسيخ اللغة الأولی؛ فما یكتسبه الطفل خلال سنوات تعلیمه الأولی أشد رسوخا وهو الأصل وهو القریب للقلوب وهو الذی یقیه الأزمات النفسية. إذن، الملامح الأساسیة للشخصیة ترتسم خلال السنوات الأولی من الطفولة بواسطة الثقافة واللغة ومن هنا صاغ الكثیر من العلماء ككاردنیر وتبعه رالف لینتون مفهوم الشخصیة الأساسیة، فما یتلقاه الطفل هو كالقاعدة أو الأساس(بعلبكي وآخرون،2011: 152). إذن حرمان الطفل من التعلم باللغة الأم یدمّر مواهب الطفل المعرفية والعاطفية والهوویة.
یحث الباحثون أن من الواجب فعله لتقلیل الآثار النفسیة علی الأطفال أن تساعد الأسرة الأطفال في تنمية شعورهم بالهویة من خلال اللغة الأم. إذن مسؤولیة كل فرد في الأسرة أن یترك انطباعا إيجابيا لدی الطفل من خلال اللغة العربیة وعظمتها حتی یشعر الطفل أنّه (ولغته وهویته وثقافته) ذو قیمة ویشعر بالحب تجاه شخصیته وإنْ لم تكن هكذا فسوف تكون النتائج وخیمة جداً. قلة الثقة بالنفس، الخجل المستمر والاضطراب الفكري، الإزدواجية، والانفصام لدی الأطفال من الحالات التي لا تخفى علی أي معلم في الأهواز والتي تستمر مع الطفل لسنوات مديدة. هذه الاضطرابات تخلق نوعاً من التوتر الهووي وتسبب إحباط لدی الطفل وفي بعض الأحیان تخلق عداء مع ثقافته وأهله وأقربائه.
لا بد من رفض الانصهار القهري والاختیاري مع لغة أخرى وإعطاء الأولوية لتعليم اللغة الأم في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل وتحبیبها الیه بطرق متعددة وأن نظهر له مواطن الجمال والروعة في هذه اللغة الخالدة باستخدامها في كل حدیث وحوار وقراءة القصص العربیة المتعددة له، بعد هذه الفترة الحرجة تستطیع الأسرة أن تبدأ بتعلیم الطفل لغة ثانیة. والحقیقة أن أول خطوة تتخذها الأمهات خاصة لتحبیب اللغة الأم هي أن تبدأ الأم بتعلیم اللغة المقصودة قبل أن تری عین الطفل أول ضوء في الدنیا أي تبدأ بذلك وهو ما یزال جنینا في ظلمة الرحم فالطفل يسمع ما يدار حوله من حوار وهو رحم أمه. هنا لا بد من الإشارة إلی الفترة الزمنیة الحرجة(critical period) التي تكلم عنها الكثیر من اللغویین كبنفيلد ولامار ولنبرغ، وقد أثبتوا من خلال دراستهم المیدانیة علی أطفال كثیرین أن السنوات الأولی من حیاة الطفل تعد الفترة الرئیسیة لتعلیم وتعزیز لغته الأصلية وهي أخصب مراحل عمره. في هذه المرحلة دماغ الطفل یمر في حالة تنبیه اللغة بتجربة مباشره. بعبارة أخری خلال هذه الفترة یكون من السهل للطفل تعلم اللغة وهي فترة من اللیونة الدماغیة یعتبر الطفل فیها إسفنج للغات. بعد هذه الفترة یصعب علی الطفل أن یتعلم اللغة جیدا. (روبرت سیغلر،2006). إذن هذه الفترة من حیاة الطفل ذات أهمیة فائقة ویدعوا الباحثون في مجال اللسانیات الآباء والأمهات إلی التكلم والغناء والضحك واللعب باللغة الأم لأنها الأفضل في تلبیة عواطف الطفل.
سعيد بوسامر - كاتب وباحث لغوي من الأهواز وله عدة مقالات في الشأن اللغوي نشرت في مجلات محكمة.
...........................
المصادر
١) أحمد، عطیه سلمان. نمو الدلاله وتكوین المفاهيم: دراسه میدانیه لاكتساب الدلاله لدی الاطفال. القاهرة: الأكادیمیه الحدیثه للكتاب الجامعي،2014.
٢) بعلبكي، رمزي منیر وآخرون. اللغة والهویة في الوطن العربي: إشكالات تاریخیة وثقافية وسیاسیة. بیروت: المركز لعربي للابحاث ودراسة السیاسات، 2013.
٣) حافيظ، اسماعیلي علوي وآخرون. اللسان العربي واشكإلیة التلقي. بیروت: مركز دراسات الوحدة العربیة، 2011.