أقلام ثقافية

تصفيق لمؤرشف الادب الروسي في العراق

ضياء نافعالمؤرشفون لا يولدون رأسا. ولادة المؤرشفين أكثر تعقيدا من ولادة الانسان، فالمؤرشف لا ينتظر تسعة أشهر في بطن امه كما الانسان، ولكنه ينتظر سنوات طويلة جدا في بطون الكتب والمصادر الصغيرة والكبيرة ويتعايش معها في السراء والضراء، لانه (وقع في عشقها)، كما وقع قيس بحب ليلى، واحترقت يداه (وما شعر) حسب ما ذكر لنا احمد شوقي، الذي رأى هذه الحادثة بنفسه، عندما كان يراقبهما سرّا، ورواها لنا بعدئذ، وفضحهما، وجاء محمد عبد الوهاب وزاد الطين بلّة .

لقد التقيت مرّة في سبعينيات القرن الماضي بواحد من هؤلاء المؤرشفين (من مدرسة قيس!) في البصرة، اثناء مهرجان المربد، ومن المؤكد ان القراء يعرفونه . انه عبد الرزاق الحسني صاحب تاريخ الوزارات العراقية . كنّا في صالة الفندق ننتظر الباص للذهاب الى جلسات المهرجان، وكان هناك ركن خاص يبيعون فيه الكتب، فتوجه الحسني الى هذا المكان بلهفة، واشترى كتابا، ورجع فرحا الى مكانه، وأخرج قلم الرصاص من جيبه، وبدأ يقرأ ويؤشّر في الكتاب، وقد أثار ذلك اهتمامي (ولا اريد ان اقول فضولي طبعا)، فاقتربت منه لارى عنوان هذا الكتاب الذي استحوذ على اهتمام المؤرشف الكبير، فاذا به أحد كتبه هو، فاقتربت منه وعبرّت عن استغرابي  مما رأيت، فقال لي بثقة، انه لم يراجع هذا الجزء من سلسلة كتبه مراجعة دقيقة وكما يجب، وانه فرح لانه وجده هنا، ويريد ان يستغل دقائق الانتظار هذه لمراجعة بعض صفحات هذا الجزء .

تذكرت اخبار قيس وكيف احترقت يداه وما شعر، وتذكرت كيف فرح الحسني عندما وجد كتابا من تأليفه واشتراه بلهفة، أقول، تذكرت كل ذلك عندما كنت اطالع ما نشره الدكتور منذر ملا كاظم (الاستاذ المساعد في قسم اللغة الروسية بكليّة اللغات في جامعة بغداد) حول غوغول قبل أيام قليلة . لقد نشر د. منذر هذه المادة في الفيسبوك فقط، ولم ينشرها في اي مجلة او جريدة ورقية او الكترونية (وما اكثرها  في هذا الزمان)، والنشر في الفيسبوك (او صفحات التواصل الالكترني هذه) يختفي بعد دقائق او ساعات ليس الا، وذلك لان د. منذر ملا كاظم نسّق واعدّ صورة ممتازة ورائعة ومتنوعة حول مادته تلك يتصدرها غوغول نفسه على اليسار، وجنبه كل تلك المصادر العربية، التي ذكرها حوله، وهي مصادر ومراجع نادرة جدا، ولم يعثر عليها - وبهذه السعة والشمولية - حتى المتخصصون في الادب الروسي من الباحثين العرب، بل حتى لا يحلمون بايجادها والاطلاع عليها، ولا اريد ان اقول ان البعض  منهم لا يعرف اصلا بوجودها.

لم أتذكر فقط قصص قيس والحسني، بل تذكرت طالبنا الهادئ والذكي منذر، عندما كان طالبا عندنا في قسم اللغة الروسية آنذاك، وكيف كان من بين أبرز الطلبة المتميّزين، لكنه لم يحاول، كما حاول معظم هؤلاء، الحصول على درجات التميّز باي وسيلة، كي يكون في الصدارة، وتذكرت عندما كتب منذر باشرافي اطروحة الماجستير عن غوغول، وكيف انه حصل على كل مصادره بنفسه، وتذكرت، كيف اني (اكتشفت !!) موهبته بجمع المصادر، بما فيها رواية المرحومة حياة شرارة – (اذا الايام أغسقت)، وكيف انه جلبها لي للاطلاع عليها، عندما كانت هذه الرواية من أكبر الممنوعات، وكم كنت ممتنا له على هذا العمل الشجاع والجرئ في ذلك الوقت الصعب والرهيب  الذي كنّا نعيشه، وتذكرت، ان صديقي كامران قره داغي أعلمني قبل فترة في رسالة من لندن حيث يقيم، ان د. منذر اتصل به من بغداد (دون معرفة سابقة) وأخبره، انه يمكن له ان يرسل اليه كتبه المفقودة عن الادب الروسي، التي صدرت في بغداد في حينها، و هذا الشئ لكامران يعتبر لقطة رائعة، والتي لم يكن حتى ان يحلم بها، وتذكرت طبعا، ان جامعة فارونش، التي حصل فيها د. منذر على شهادة الدكتوراه  قد أصدرت له كتابا بالروسية عن غوغول في المشرق العربي، وهو طالب الدكتوراه العراقي الوحيد، الذي حقق هذا النجاح الباهر، والذي لم يتبجح د. منذر بشأنه او يتباهى، لانه لا يعرف هذه المظاهر اصلا، ويمكن لي ان أتصور ماذا كان سيفعل الآخرون لو حققوا مثل هذه النجاح الكبير، وكم اتمنى ان أحصل على نسخة من هذا الكتاب كي اطالعه واكتب عنه للقراء العرب، لانه يستحق ذلك فعلا .

هناك الكثير من النقاط الرائعة الاخرى حول هذا المؤرشف الموهوب للادب الروسي في العراق، ولا مجال حتى للاشارة اليها في مقالتنا هذه، ولكني أود ان اختتم حديثي عنه بما قاله لي المترجم العراقي الكبيرعن الروسية  د. تحسين رزاق عزيز حوله . لقد استطاع د. منذر ان يحصل على مسودات المرحوم  محمد يونس الخاصة باطروحته عن تولستوي، التي ناقشها في جامعة موسكو آنذاك، وهي مسودات مكتوبة بخط رشيق (تميّز به المرحوم محمد) حول تلك المصادر الخاصة بتولستوي، فما أعظم هذه الثروة .

اعلن هنا وبكل فخر ميلاد مؤرشف الادب الروسي في العراق الدكتور منذر ملا كاظم، واشارك مع الجميع بالتصفيق الحاد له، وانتظر  تألّقه اللاحق في هذا المجال الجديد في الساحة الثقافية العراقية، واحلم ان  أرى يوما كتابا ضخما من تأليفه بعنوان – فهرس الادب الروسي  في العراق (على غرار كتاب المرحوم د. عبد الآله أحمد عن فهرس القصة في العراق) كي نباهي به الامم ...

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم