تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

عطر الجريمة

قراءة في رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكيند"

في أمكنة تتداخل فيها الروائح من القذارات المختلفة المصادر بحيث لا يمكن لإنسان عصرنا تخيّل مسبباتها ومكوّناتها، وكيف يتمّ تعايشُ القاطنين معها بتشظّي مستوياتهم وطبقاتهم الاجتماعية والدينية لما تحمله من قبح  المشهد، وانعكاسه في النفوس، في مثل تلك الأمكنة هل يمكن لمخلوق إدراك ما تبثه العطور الحقيقية من جاذبية التأثير والهيمنة على المشاعر، واستبدال الخرائب بالسكينة، وكيف تراه سيكونُ من يُولد في ذلك الوسط، وكيف إن وُلد مسلوبًا رائحته البشرية بمطلقها، ومحظيًّا بموهبة خارقة تتمثل في القدرة على استنشاق جميع الروائح أنّى وكيفما كانت، ثم ابتداع عطر متفرّد يسيطر به على كل من حوله، ويجعل محيطه يدور في فلكه، ويخضع لسطوته، وهو غير المعبوء به، لكتلة النقائص التي يغرق فيها؟!

في رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكيند" والتي تقع أحداثها في باريس في القرن الثامن عشر يتراءى بطل تلك الرواية " جان باتيست غروني" المنبثق من عالم عجائبي يحفلُ بالغسق، ومخلوقًا يستطيع  بعقل مجرم أن يغيّر مسارات الموروثات الأخلاقية إلى النقيض مخضعا إياها لأفكاره الجهنمية، ورغم أنه طوال الرواية كان يسعى إلى تأكيد الذات من خلال حاسة الشم العجيبة التي اكتشفها في منخريه، والتي وصلتْ به إلى الهيام وراء روائح، وابتكار ما لم  يُعهَد من قبلُ منها، فإنّ سباحته وراء الجمال لم تكن لتستطيع أن تخلصه من القذارة التي نبت منها، وعاش في تلافيفها، فالأمّ التي ولدته، وخلّفته بين أحشاء الأسماك تحت طاولة في سوق يغصّ بالنتانة آملة أن يجرفه البحر مع بقايا تلك الأحشاء كما فعلت مع إخوته، وبقاؤه حيا، ورفض المرضعات تقبله ليس لجشعه في الرضاعة والطعام، بل لأنه كائن مسلوب الرائحة، وتشرده بين الجلود المدبوغة، وأرباب العمل الجشعين، لم يمنع سكائب الجمال المنسدلة على جلود العذارى من ردعه عن قتلهن حين رأى أجسادهن ضالته التي سينال من خلالها عطره الحلم.

هدوء مخيلة خارقة تغيّب مستخدمها، فتبديه كمن يتلو قدّاسهُ في الأكفان المطليّة بالدّهن الذي يلفّ به ضحياته، فلا تعود لرائحة الجسد المفقودة الأهمية كبصمة للهوية حين يتراكم الخلق عبيدا أمام عطر غروني.

 

أمان السيد – سيدني - أستراليا

 

 

في المثقف اليوم