أقلام ثقافية

تمثال لجحا وحماره في موسكو

ضياء نافعنحن نسميه – جحا، ونعرفه حق المعرفة، وكنّا ولازلنا نحكي لبعضنا البعض حكاياته ونوادره المرحة، وقد ذكره ابن النديم نفسه في الفهرست هكذا – جحا العربي، اما عند الشعوب التي تتكلم الفارسية فاسمه - ملا نصر الدين، وعند الشعوب التي تتكلم التركية فهو - خوجه نصر الدين، وهناك اسماء عديدة اخرى لهذه الشخصية المرحة والطريفة في الشرق عند الشعوب الاخرى، وقد اطلعت على قائمة غير اعتيادية تتضمن ثلاثين اسما لهذه الشخصية المتميّزة  بثلاثين لغة من لغات مختلفة تماما لبلدان متنوعة، من القوقاز الى البلقان والى اسيا الوسطى، وهذا دليل طبعا على انه شخصية فولكلورية، ولا تهدف مقالتنا الى بحث اصول هذه الشخصية وتاريخها، ولكن من الواضح، ان  شعوب هذه البلدان تعرفه معرفة جيدة وتتمتع بحكاياته وجماليتها وحكمتها وعمقها الفلسفي، لانه شخصية ساخرة  ومشهورة جدا بمقالبها ومواقفها وخلاصة اقوالها الدقيقة والذكية، وباختصار، فان شخصية جحا تعيش بيننا دائما و منذ مئات السنوات، رغم اننا لا نعرف اسمه وتفاصيل حياته، فبعض المصادر تذكر، ان اسمه دجين بن ثابت الفزاري من الكوفة، والذي عاش في القرن السابع، وتتحدث مصادر اخرى، انه شخص آخر ولد وعاش وتوفي في تركيا حيث يوجد قبره، رغم اننا نقرأ على هذا القبر، انه فارغ، وان خوجة نصر الدين نفسه هو الذي بناه ليوهم الجميع انه توفي، وذلك كي يسافر متجولا في بلدان العالم، وفي ختام هذه الكتابة نقرأ، ان مناقشة ذلك الان دون فائدة، وانه يمكن ان نتوقع كل شئ من خوجة نصر الدين (وبالمناسبة، يوجد فلم سينمائي سوفيتي بعنوان – (12 قبرا لخوجه نصر الدين) وهو فلم كوميدي تم انتاجه عام 1966 في طاجكستان السوفيتية، ويتحدث عن عودته على حماره الى عاصمة طاجكستان في القرن العشرين)  .

لقد  اقاموا له  في تركيا عدة تماثيل، ومنها التمثال الذي يجسّده وهو يمتطي حماره، ولكن بعكس الشكل المفروض، اي ان وجهه الى الخلف وليس الى الامام كما يمتطون الجياد او الحمير عادة، وهي واحدة من حكاياته ومقالبه الشهيرة، ويوجد له ايضا تمثال آخر في مدينة بخارى باوزبكستان وهو يمتطي حماره، ولكن بصورة طبيعية، وليس بالعكس كما في التمثال التركي،  اما تمثاله في موسكو، والذي نود ان نتوقف عنده هنا حسب عنوان مقالتنا، فقد تم افتتاحه عام 2006 بمبادرة وتنفيذ مؤسسة اسمها – (حوار الثقافات – عالم موحّد)، وهي منظمة توجد في اكثر من خمسين بلدا، وترعاها اليونسكو وجهات رسمية في نفس تلك البلدان، وفي روسيا ترعاها وتساندها وزارات الثقافة والتعليم والخارجية . التمثال الذي اقامته هذه المنظمة لجحا  مع حماره ايضا (حمار جحا جزء لا يتجزأ من تراثه)، الا ان الفرق هنا بين هذا التمثال، وتماثيل تركيا واوزبكستان يكمن، في ان جحا يسير على قدميه، ويحمل بيده اليمنى كتابا كبيرا، ويسحب بيده اليسرى رشمة حماره، الذي يسير خلفه، والكتاب طبعا رمز المعرفة، ويرتدي جحا في هذا التمثال الرداء الشرقي ويضع عمامة صغيرة على الرأس، اما حماره، فهو في غاية الرشاقة  ويثير تعاطف الجميع واعجابهم، خصوصا وانه يذكّر بافلام الكارتون، وليس عبثا انه اصبح محبوبا جدا من قبل الصغار، ومن الواضح للمشاهدين رأسا تلامع اذنيه ومكان الجلوس على ظهر هذا الحمار الرشيق، وذلك من كثرة جلوس المشاهدين عليه، اما التماع اذنيه، فيعزى الى ان الجميع يمسكون اذنيه، حيث اصبح ذلك رمزا  للفأل الحسن، كما اصبح تمثال كلب في احدى محطات المترو  بموسكو، لدرجة، ان هذا الكلب اصبح حتى مكانا لزيارة السواح الاجانب، هذا وقد سأل أحد المشاهدين لتمثال جحا فتاة امامه مسكت باذني الحمار عن سبب ذلك، فأجابت الفتاة ضاحكة، لانها تريد ان تصبح مثل جحا مرحة ومحبوبة وحكيمة .. علما ان النحّات الروسي أرلوف، الذي قام بنحت التمثال قد صرّح في يوم افتتاحه، ان هذا البطل الحكيم والمرح قد وصل الان الى موسكو من اعماق القرون السحيقة، كي يذّكرنا مرة اخرى، ان الكلمات المضحكة والحكيمية يمكن ان تساعد الانسان في اكثر المواقف صعوبة . وبالمناسبة، فان هناك اكثر من ألف حكاية وقصة لجحا مترجمة الى الروسية، وقد كتب مرة احد القراء الروس تعليقا يقول، انه يتذّكر دائما احدى هذه الحكايات وغالبا ما يرويها لاصدقائه والمحيطين به، وملخص هذه الحكاية، ان جحا وابنه كانا يركبان على الحمار معا، فقال له الناس، ان ذلك ظلم للحمار المسكين، فنزل جحا وترك ابنه على الحمار، فقال له الناس، ان ابنه عاق يركب الحمار ويجعل والده يمشي، فنزل الابن وركب جحا، فقال له الناس، يا له من أب قاس، يركب الحمار ويترك ابنه يمشي، فنزل جحا وأخذ يسير مع ابنه جنب الحمار، فقال الناس، ياللغباء، عندهما حمار ولا يستخدماه ويسيران جنبه . ويختتم هذا القارئ الروسي تعليقه قائلا، انه لم يجد طوال حياته ابدا حكاية حكيمة وحقيقية وواقعية ومرحة مثل هذه القصة .

تحية لمؤسسة -  (حوار الثقافات – عالم موحّد) الروسية، التي قامت بنصب تمثال جميل ورشيق وغير اعتيادي بتاتا في قلب موسكو، وتحية لهذا البطل الاسطوري الشرقي، الذي وصل الى موسكو مشيا على الاقدام، كي يقول للروس، ان الكلمة المرحة الحكيمة ضرورية و مهمّة للانسان وحياته ......

 

أ. د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم