أقلام ثقافية

الوجه الآخر للأيقونة.. قراءة في فيلم "تشي جيفارا" (1)

طارق وسلاتياِستنادا إلى وقائع حقيقيّة، يبلغ الارجنتيني "تشي جيفارا" (وقد أدّى دوره في الفيلم الممثل بينيسيو ديل تورو) وفريق المنفيين الكوبين بقيادة "فيدل كاسترو" الشاطئ الكوبي من المكسيك ويشرعون في حشد الدعم الشعبي للإطاحة بالديكتاتور "فولغ نسيو باتيستا". تنطلق أحداث الفيلم بحوار أجرته الصحفية "ليزا هوارد" مع تشي جيفارا سنة 1964. وباستعمال تقنية الومضة الورائية يعود المخرج "ستيفن أندرو سودربرغ" بذاكرة " تشي جيفارا" الى سنة 1952 حين أقدم الديكتاتور "باتيستا" على القيام بانقلاب عسكري وشهدت كوبا في عهده نظاما قمعيا لم يتردد في القضاء على معارضيه بالإضافة الى ذلك فقد تحوّلت كوبا في عهده الى أشبه ما يكون بمقاطعة أمريكية. وخلال سنة 1955 تعرف "تشي جيفارا" على فيدل كاسترو الذي نُفي إلى المكسيك بسبب معارضته للنظام وتبعيّة الجزيرة لأمريكا، ولأنّه يعتبر أنّ من الضروري القيام بثورة لتغير النظام. تبدئ رحلة "تشي جيفارا" و"فيدل كاسترو" من المكسيك نحو الجزيرة الكوبية على متن قارب يضمّ 82 رجلا. زمن الرحلة على متن القارب استغلها المخرج لتسليط الضوء على الأحداث القادمة التي ستدور في الولايات المتحدة أثناء زيارة "تشي جيفارا" للأمم المتحدة ديسمبر 1964، وفي هذه اللحظة عاد المخرج الى كوبا حيث أرسي القارب في مارس 1957 على بعد 398 ميلا من هفانا أين واجه "تشي " ورفاقه صعوبات في العثور على التموين في ظلّ مطاردتهم من قبل رجال الديكتاتور "باتيستا". وفي 27ماي 1957 أعلن "فيدل كاسترو" اندلاع شرارة معركة "الأوفر" التي انتهت بانتصار رفاق "فيدل كاسترو". وقد سلّط الفيلم الضّوء على جوانب إنسانية في شخصية "ارنستو تشي جيفارا" الذي قام بمعالجة المصابين والمرضى وفرض الانضباط داخل الجيش وعمل على معاقبة الخونة، مع الحرص على تعليم سكان الأرياف ومناهضة الاستبداد والاستعمار كما ورد في خطابها أمام منظمة الأمم المتحدة. وباندلاع معركة "سانتا كلارا" بدأت الأمور تميل لصاح الثورة الكوبية التي انتهت بدخول الثوار للمدينة وفرار الديكتاتور "باتيستا" من كوبا بعد هزيمة جيشه وعمّت بذلك فرحة انتصار الثورة كامل كوبا التي سوف تشهد عدة تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية لتكون نهاية الفيلم مفتوحة على بقية أحداث السيرة الذاتية "لأرنستو تشي جيفارا".

إن مشاهدة هذا الفيلم تجعلك تنتبه الى قضايا كثيرة أبرزها الحالة الاقتصادية التي كانت الأرياف الكوبيّة تعاني منها قبل الثورة حيث نلاحظ ارتفاع نسبة الأمية لدى الكوبين في الأرياف، وغياب الرعاية الصحية بما دفع العديد منهم إلى الهجرة نحو المدن الكبرى التي كانت عبارة عن مقاطعات أمريكية، حيث كثرت نشاطات المافيا الأمريكية التي وجدت كوبا بؤرة مناسبة لأنشطتها المالية المشبوهة متحالفة في ذلك مع النظام السياسي الفاسد الذي تسبب في إبعاد "فيدل كاسترو" ونفيه إلى المكسيك. فهذا النظام القائم كان يحمي مصالح الأمريكيين أكثر من الشعب الكوبي الذي نُهبت أمواله وثرواته وازدادت أحواله سوءا. هذه الظروف مجتمعة، دفعت فيدل كاسترو للاعتقاد بأنه من الضروري تغير النظام والتخلص من الديكتاتور "باتيستا" الذي أجهض التجربة الكوبية الديمقراطية بمساعدة حلفائه من الإدارة الامريكية وأما" أرنستو تشي  جيفارا " فكانت قناعته راسخة بضرورة العمل على إطاحة الديكتاتور حتى يتسنى لشعوب أمريكا اللاتينية الاقتناع بان الثورة لابد من تحقيقها، وذلك ما وضحه  في خطابه أمام جمعيّة الأمم المتحدة، فالقضية لديه متعلقة بما سماه "الوطن أو الموت " فالإمبريالية تعيش في أسوء مرحلة بعد تلك الهزيمة النكراء التي منيت بها الإدارة الامريكية في عمليّة خليج الخنازير وكاد الأمر أن يعصف بمستقبل الرئيس "كينيدي". إن خطاب التحدي الكوبي الذي ورد على لسان "تشي جيفارا" يقابله في المقابل خطاب الخضوع لممثل دولة "بنما " الذي استهجن الثورة الكوبية وشجاعة قادتها بل والأخطر من ذلك عوض أن يدافع عن حقوق الشعب الكوبي فإنه دافع عن التدخل الأمريكي في شؤون الدولة الكوبية متناسيا بأن القانون الدولي يناهض التدخل الأجنبي في شؤون الدول الأخرى مهما كانت الأسباب. ولعل الملاحَظ في هذا الفيلم أن وصول " تشي جيفارا" للأمم المتحدة لم يكن محطّ ترحاب من قبل بعض الكوبين وذلك يعود أساسا للمجازر والإعدامات التي قام بها " تشي جيفارا" في سجن لاكا بانيا وهذا ما يجعلنا نطرح التساؤلات حول هذه الجرائم والتجاوزات التي ارتكبها ملهم الثورات في حقّ خصومه، والأمر نفسه ينطبق على رفيقه الثائر "فيدل كاسترو" الذي وعد جميع رفاقه خلال قتالهم ضدّ رجال "باتيستا " بأنه سوف يعمل على إعادة الديمقراطية الى كوبا ولكنه ما لبث، حالما انتصر في الحرب،  أن حوّل البلاد الى مملكته الخاصة ليلبث في الحكم حوالي أربعة عقود .

 

طارق وسلاتي - تونس

 

في المثقف اليوم