أقلام ثقافية

التشريح النفسي للاميّة الطغرائي!! (2-3)

صادق السامرائينَؤُمُّ ناشئةً بالجِزْعِ قد سُقِيَتْ

نِصالُها بمياهِ العُنْجِ والكَحَل

أحلام يقظة وأوهام رغبة تطوف في خياله وتتملك مشاعره وأحاسيسه، فيتوهم أنه يقصد شابة حسناء فيمعن بوصف عيونها وبتصورهِ الإنفعالي الرغبوي العارم التأثير عليه، وما عنده من لوعة وحاجة إلى الحب والعطف والأمان، كتعبير عن أشواق ملتهبة وحاجات مستعرة.

22

قدْ زادَ طيبَ أحاديثِ الكِرامِ بها

ما بالكَرائِم منْ جُبْنٍ ومِنْ بَخَلِ

لا يزال يتكلم عن المحبوبة المُتخيلة، وأنها من معشر طيب كريم وذات مقام يليق به ويهفو إليه، وتستحق أن يكون مِقداما مُتحديا للوصول إليها والتمتع بوجودها في أحضانه، وأنه الفارس الذي تحفه الجميلات الباسقات، مما يمثل نوعا من أحلام بقظة الحرمان.

23

تبيتُ نارُ الهوى مِنْهُنَّ في كبدٍ

حَرّى، ونارُ القِرى مِنهم على القَلَلِ

تواصلٌ للوصف المسرف فتصبح للنساء التي منهن محبوبته نار متأججة في الحشا، ولقبيلتهن نار على التلال والمرتفعات كدعوة للضيافة والكرم، ويبدو أنه وجد متنفسا أو ترويحا نفسيا بالإنغماس بهكذا تخيلات حسية ربما تمنحه بعض المتعة التي هو بأشد الحاجة إليها.

24

يَقْتُلْن أنضاءَ حُبٍّ لا حَراكَ بِها

ويَنْحرُون كِرام الخَيْلِ والإبِلِ

ويمضي في إمتدادات تصوراته وأوصافه لمحبوبته المتخيلة، ويقرنها بنساء أهلها، ويرى فيهن العزة والكرامة والكبرياء، فلا ينحرن إلا ما هو معافى وطيب، ويقتلن ما هو هزيل، ويعممها على الرجال، وكأنه يقول بأنهن لا يتزوجن إلا كرام الرجال، ويَشُحنَ الطرف عمّا دونهم من الرجال.

25

يَشْفى لديغُ الغَواني في بيُوتِهمُ

بِنَهْلةٍ مِنْ غَدير الخَمْر والعَسَلِ

إمعان في التخيل والتصور المجافي للواقع، الذي يحصل للمحرومين والموضوعين في زنزانة الوعيد، وفقدانهم للحياة بكامل معطياتها ومتعها اليومية، فهن وهذا إمتداد من المحبوبة المتخيلة، شفاء للمعاناة، أو إنهن يصبن رجالهن وعشاقهن بسهام الحب والغرام، فلا يتحقق لهم نجاة إلا بقربهم منهن.

26

لعلَ إلْمامةً بالجِزْع ثانيةً

يَدّبُّ منها نسيمُ البُرْءِ في عِلَلِ

وكأنه يريد أن يختم قصته المحشوة بالفنتازيا بأمل التواجد عندهن في موطنهن (الجزع)، لأن في ذلك شفاء له من العلل، أي أنه صار يبحث عن مخرج يأسو به ما يعانيه، فتخيل أن الحل في المرأة من هذه الفبيلة المعروفة بجمال نسائها وعلائهن وهيبتهن، مما يستحقن المجاهدة والمجالدة والتضحية للفوز بإحداهن، وهو يريد أن يتحرر من أصفاد همومه وخيباته المتراكمة.

27

لا أكْرَهُ الطَّعْنةُ النَّجلاءَ قد شُفِعَتْ

برَشقةٍ مِن نِبالِ الأعْيُنِ النُجُلِ

يتصور نهايته بطعنات نجلاء بالنبال من قبل خصمه الذي وقع في قبضته، وراح يقلل من هول القتل بإقران ذلك بأعين المحبوبة التي ستأسو ما سيصيبه من الألم، فنظرات محبوبته بلسم يداوي الجراح مهما عظمت وإشتدت وإتسعت، فأهلا بالنبال المقرونة بنظرات عيون حبيبة شماء.

28

ولا أهابُ الصِّفاحَ البيضَ تُسْعِدُني

باللَّمْح مِنْ خِلَلِ الأستارِ والكِلَلِ

ومضى يقرن الموت بالحب، فالموت لا يعني شيئا ما دام قادرا على التمتع بنظرة إلى محبوبته واللواتي من حولها، حتى ولو من خلل الأستار، فأن في ذلك مداواة لمعاناته وتطبيب للوعته وما ’ل إليه من حرمان وإمعان بالوحدة والإنعزال.

29

ولا أُخِلُ بغزلانٍ أغازِلُها

ولو دَهَتْني أسودُ الغِيْل بالغِيَلِ

ويزداد فضاضة وإمعانا في تولعه وتمسكه بتصوراته، التي وجدها ذات توافق مع طاقاته وطموحاته المكبوتة أو المدحورة، وكأنه يعبر عن بطولته الذاتية، وقوته وشجاعته بتحديه للقوى التي تمنعه من الوصول إلى غايته للتمتع بما يحب ويرغب، وفي هذا تعبير عن آلية الإنزياح العاصفة في كيانه..

30

حبُّ السلامةِ يُثني همَّ صاحِبهِ

عن المَعالي ويُغري المَرْءَ بالكَسَلِ

ويبدأ بالإنتقال إلى التبرير والتسويغ والتسامي في تفاعله مع موقفه الصعب الشديد، ويحدّث نفسه بأن الحياة تخبره بأن حب السلامة لا تعين المرء على الوصول إلى المعالي، بل لا بد من التحدي والإقدام والمغامرة ومواجهة الأهوال والأبطال، وحتى الموت في سبيل ذلك، وعليه فأن ما قام به كان ضمن هذا المبدأ الواضح في الدنيا التي تؤخذ غِلابا.

31

فإنْ جَنَحْتَ إليْهِ فاتْخِذْ نفقاً

في الأرْضِ أو سُلَّما في الجوَّ فاعْتَزلِ

وهنا محاورة مع النفس يحاججها ليقنعها، أن الذي يميل إلى السلامة والخوف وعدم ركوب الأهوال وتحدي الصعاب في لجج الحياة وأمواجها المتلاطمة، عليه أن يندحر أو يهرب ويندس في ما يساهم بعزلته وخروجه من تيار الحياة، وهو ليس من هؤلاء بل من الراكبين لموجها العاتي.

32

ودَعْ غِمارَ العُلى للمُقدِمين على

رُكُوبها واقْتنِعْ مِنهنَّ بالبَلَلِ

فاترك خوض غمار الحياة إذا آثرت السلامة والدعة، واقنع بما يصيبك من نثار تفاعل ربانها مع تياراتها الهدارة، لكنه هو الذي يأبى أن يكون على الجرف أو الضفاف، وعليه أن يتفاعل مع أهوالها ويصدها ويصارعها فينتصر عليها وتنتصر عليه، وهذا هو خياره العزيز الأبي الشديد.

33

يَرْضى الذليلُ بخَفْضِ العَيْش مَسْكَنة

والعزُّ عندَ رسيمِ الأيْنقِ الذُّلَلِ

وتتواصل محاورته مع نفسه وإجتهاده بتبرير ما آل إليه ، ويؤكد لها بأنه ليس ذليلا ليرضى بعيش مستهان ولا من الذين يتوسلون بالآخرين، ولا يمكنه أن يكون موجودا ساكنا هامدا، بل عليه أن يتحرك بنشاط دائب ليعبّر عن وجوده القوي وإرادته الطامحة الطافحة.

34

فادْرَأ بها في نُحورِ البيدِ جافِلَةً

مُعارضاتٍ مَثاني اللُّجْمِ بالجُدُلِ

وبهذا البيت يثير في نفسه الحماسة ويريد أن يصل إلى نشوة الذكريات وإستحضار الإنجازات التي حققها وتمتع بمعطياتها، وكأنه لا يزال في ذروة نشاطه وقدراته على الدفع بإتجاه خصومه ، وكيف يستطيع أن ينطلق بإنتظام وانضباط وعزيمة نحو ما يريده من غايات.

35

إنّ العُلا حدّثتْني وهي صادقةٌ

فيما تحدِّثُ أنَّ العِزَّ في النُّقَلِ

 في هذا البيت تبرير وتسويغ لغربته وعدم إستقراره في ذات المكان، لأنه من طالبي الرفعة والعز، وعليه أن يتحرك ويداهم ويُهاجم ويتجشم الصعاب ليظفر بما يزيده هيبة وقدرة على التفاعل القوي مع الحياة، وقد حقق الكثير من ذلك وفقا لهذا المنهج المتوافق مع نواميس الطبيعة ومناهج الأكوان، أي أنه لم يرتكب خطأ وإنما سار في مسار صائب وسليم.

36

لوْ أنَّ في شرفِ المأوى بُلوغُ مُنى

لمْ تَبْرحِ الشَّمسُ يَوْما دارَةَ الحَمَل

ويمضي في تسويغ غربته وتنقله، ويقارن ذلك بالشمس وفقا لما يرى ويعرف، ويحسب أن الشمس حتى في أعزّ مواضعها لا تبقى آوية خاوية، وإنما تغادره لأن عزّها وقوتها وهيبتها في تنقلها، فالحركة تعني التفاعل الإيجابي المقتدر والسكون عكس ذلك، فيقارن نفسه بأعز ما في الكون الذي يراه وهو الشمس الدائبة الحركة.

37

أهَبْتُ بالحظِّ لوْ نادَيْتُ مُسْتَمِعا

والحظُّ عنّي بالجُهّالِ في شُغُلِ

وكأنه يتعمق في محاججته الذاتية وحواريته لنفسه، ويخبرها بأن الحظ ليس من شأنه، فهو رجل عزيمة وإقدام، وينال ما يريده بالجد ومقارعة التحديات ولوي عنق الأهوال، فهو صاحب عزيمة وشكيمة وقدرة على صناعة التأريخ والأحداث، وليس من اصحاب الحظوظ البائسة.

38

لَعَلّهُ إنْ بَدا فَضْلي ونَقْصُهُمُ

لعَيْنِه، نامَ عَنْهُمْ أوْ تَنبَّهَ لِي

ولايزال في تفاعله مع الحظ فيستحضر ما يساهم في تعضيد فكرته بأن الحظ بعيد عنه، ولو رأى فضله ومآثره ربما تنبه له وأصابه بما ينفع، لكنه لا يرى ذلك ويغفل عن نقائص الجهال الذين يتمتعون بما تجود به عليهم الحظوظ، وفي هذا نوع من آليات الإسقاط.

39

أُعلّلُ النفسَ بالآمالِ أرْقُبُها

ما أضْيَقَ العَيْشَ لوْلا فُسحةُ الأمَلِ

وهذا إقتراب ترويحي يحاول فيه أن يخفف من وطأة أحواله وما أصابه من الهزيمة والخسران، ويبقى متمسكا بالنور رغم حلكة أيامه وكثافة الدجى الذي يتهاطل عليه.

وكأنه يتعجب كيف أن التعلل لم يشافيه ويجد له مخرجا من وظأة العيش الذي هو فيه، لكنه يبقى متمسكا بالأمل لأنه الحياة والخيار الأسمى للنجاة.

40

لَمْ أرْتَضِ العَيْش والأيّامُ مُقبلةٌ

فكيفَ أرْضى وقدْ ولّتْ على عَجَلِ

وأخذ بتعنيف نفسه، فبرغم تشبثه بالأمل لكنه أدرك بأنه كان في مسيرته السابقة صاحب نفسٍ غير راضية، ومندفعة بإتجاهات تريد فيها المزيد من المكاسب والنجاحات والبطولات، وها هو الآن في محنة التوافق مع ما لا يتفق وطبيعته ورؤيته للتفاعل مع الأيام.

 

د. صادق السامرائي

(يتبع)

 

 

في المثقف اليوم