أقلام ثقافية

سُوف عبيد: ذاكرة تونس المدينة

وأنت تمرّ من أحد أنهج مدينة تونس العتيقة أو أنت عابر من بطحائها ورأيتَ رجلا يمشي على مَهل كأنه في فُسحة أو نزهة ثم يقف حينا يتأمّل زاوية من الزوايا أو بابا من الأبواب أو تراه وقد أحاط به جَمع من الأطفال أو الشباب أو قافلة من السائحين الأجانب يشرح لهم تاريخ المكان وخصائصه فاعلمْ أنه عاشقُ مدينة تونس المُتيّمُ بحبّها.

ـ2 ـ

هو الدكتور الطبيب وصِفتُه المناسبة والصّحيحة ـ الحكيم ـ إنّه محمد رضا الماجري الذي عرفته عن قرب في السنوات الأخيرة أو بالأحرى بعد ثورة 2011 وقد رأيته وسمعته من قبلُ في بعض المناسبات الثقافية بنادي الطاهر الحداد فشدّ اِنتباهي من وقتذاك سِعةُ اِطلاعه في المواضيع المطروحة بين الحاضرين ولست أدري كيف توطّدت العلاقة بيننا بمناسبة أنشطة جمعية اِبن عرفة في السليمانية قرب جامع الزيتونة فكان حريصا على الحضور والمساهمة في توضيح عديد المسائل الاجتماعية والحضارية والتاريخية والطبية ناهيك أنه يحدّثك حتى عن الفطائر وصنعها وعن إعداد الكسكسي بتفاصيل اِستخراجه بأنواع الغرابيل ويُفصّل لك الوصف في الكسكسي تفصيلا دقيقا حول كيفية إحضاره حسب مختلف الأصناف حسب المدن التونسية وجِهاتها ومقارنة الكسكسي التونسي ببقية الأنواع في البلدان المغاربية وحتى ببعض البلدان الأوروبية ليؤكّد بكلّ هذا الإلمام والتدقيق عبقرية المراة التونسية عبر التاريخ.

عندما دار الحديث بيننا مرّة عن رغبته في أن يكون له مجلس مُخَصّص للقراءات الحرّة من مختلف الكتب والنصوص وبجميع اللغات بلا رقيب أو حسيب سُرعان ما لبّيتُ رغبته بكل سرور فكان ذلك كذلك صباح كل يوم جمعة بجمعية اِبن عرفة الكائنة في فضاء ـ السليمانية ـ ومن يومها والدكتور مُرابط بناديه هذا في موعده ما عدا أيّام العطل الرّسمية أو إذا دُعي لحضور مناسبة طبيّة أكيدة لا يُثنيه عن القدوم إلى ناديه في الموعد بالضبط ـ بل قبل خمس دقائق ـ لا الحرُّ ولا القَرّ ولا الأمطار ولا الرّياح.

ـ3 ـ

درس الدكتور الطب بفرنسا وعاش هناك أحداث ماي 1968 بإرهاصاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية وخالط الكثيرين من مثقّفيها وفلاسفتها وأدبائها من المستشرقين أيضا فيحدثك عن بعض تفاصيل مسيرتهم وخصائص أفكارهم وحتّى عن كتبهم حديث يَقين العارف فهو ليس من أولئك الذين يزعمون القول على عواهنه مَثَلُهم مَثَلُ – طُز ْ حِكمة – ويتذكّر الدكتور سفره إلى فرنسا بعد نجاحه في الباكالوريا إذ جاء رجل من الوزارة يسعى بهندام محترم ودقّ باب منزله وقدّم له ما يفيد أنه تحصّل على منحة لمواصلة تعليمه العالي والدكتور يستحضر ذلك اِعتزازًا منه بدولة الاِستقلال التي كانت تشجّع على طلب العلم وتجتهد في فتح الأبواب أمام أصحاب الكفاءات والمواهب في جميع المجالات ومن جميع جهات البلاد وهو لا ينسى أبدا فضل معلّميه وأساتذته وكم هو فخور بأنه درس اللغة والأدب العربي على أيدي الأساتذة الشاذلي القليبي ومصطفى الفيلالي ومحجوب بن ميلاد الذي تتلمذتُ إليه أنا أيضا في كلية الآداب بتونس فاِبتهج الدكتور لذلك ـ والحقَّ أقول ـ إنّ اِبتهاحي كان أكثر لأني صرت إليه زميلا أو كزميل دراسة بطريقة من الطرق والدكتور عندما يذكرهم فإنه يؤكد بإعجاب أنه تعلّم عنهم دقة اللغة العربية واِكتشف معهم جماليتها وأنه اِستفاد منهم أيضا عندما كان ضمن اللجنة العربية المختصة في تعريب المصطلحات الطبيية.

ـ4 ـ

الدكتور يذكر دائما بكثير من المودّة صديقه ـ حمادي الصّيد ـ وكيف كان يعاقبه الأستاذ الشاذلي القليبي وذلك بأن يقف على رجل واحدة في إحدى زوايا قاعة الدّرس وهو الذي كان قد دعاه بعد ذلك ليكون من مساعديه في الإذاعة الوطنية عندما تولّى إدارتها وفي هذا السياق يتحدث الدكتور عن ذكرياته مع الشاعر مصطفى خريف ذاكرا بعض طرائفه ليصل الحديث معه إلى جماعة أدباء تحت السّور الذين أدرك البعض منهم فيذكر مثلا قصة أغنية ـ حبّي يتبدل يتجدد ـ للفنان الهادي الجويني وكيف اِلتقط قِطع أوراقها الممزّقة من صاحبها الأديب علي الدوعاجي على إثر خلاف أو شجار بين الحاضرين في مقهى ـ تحت السّور ـ بباب سويقة.

والآن وهنا…. يصل بنا الحديث إلى باب سويقة مع الدكتور فهذا الحيّ الشعبيّ العتيق بتونس العاصمة هو ملخّص حياة الدكتور وكُنهُها ومدارُ ذكرياته في مختلف أرجائه ونواحيه اِنطلاقا من ساحته الفيحاء إلى بطحاء الحلفاوين ومن مقام سيدي محرز وسُوقه إلى بطحاء ـ رحيبة سيدي الجبالي ـ حيث نشأ الدكتور وترعرع ففي هذا الفضاء العمراني من تونس العاصمة يَكمُن مَخزن عارم لأرشيف هائل يحفظ ذكريات الدكتو رالزاخرة بالأحداث البسيطة والجليلة من ذكرى السّهرات العائلية إلى ذكرى عودة الزّعيم بورقيبة في غرة جوان 1955 وهو أرشيف يحفظ سيرة شخصيات مازالت ذكراها طافحة في خيال الدكتور الذي يصرّح أنه تأثّر بها بل وتعلّم منها ما لم يتعلمه في المدرسة والمعهد أو الكليّة فتسمعه يذكر بمتعة أخبار الشيخ ـ سيدي على بلخوجة ـ الذي رغم منزلته الدينية والاِجتماعية الجليلة فإنه كان قريبا من النّاس بفضل الأريحية وروح المرح والشخصية الاجتماعية التي يتميّز بها ويحدّثك الدكتور بإعجاب عن مغامرات ـ عليّ شورّب ـ المعروف ببلطجيته وصعلكته لكنه عند حلول شهر رمضان يمكنك أن تجده في المسجد يصلّي التراويح وتراه مارّا بين الدكاكين يأخذ من الباعة ـ رضي منهم من رضي وكره من كره ـ ما يحتاجه المُعوِزُون في الحيّ لإعداد عَشائهم فكأنه ـ عُروة الصعاليك ـ في العصر الجاهلي ويذكر الدكتور أنّ ـ علي شورّب ـ جاء إلى العائلة مسرورا مهنّئا حاملا المشروبات بمناسبة حصوله على الباكالوريا.

ـ5 ـ

هذا التنوّع والاِحتلاف والتعدّد في الشخصيات التي عرفها الدكتور هو الذي طبع شخصيته المنفتحة فهو كثيرا ما يقول إنه قد عاش التنوّع الحضاري منذ تشكّل وعيُه حيث ينطلق من حيّ باب سويقة ذي الطابع التونسي ثم يمرّ في طريقه ـ إلى ـ معهد كارنو ـ على الحيّ اليهودي بحيّ الحفصية وباب قرطاجنّة كي يصل إلى الحيّ الأوروبي حيث المعهد فالدكتور عارف بأحياء العاصمة تونس حيّا حيّا وبطحاءَ بطحاءَ وساحة ساخةً وشارعًا شارعًا ونهجًا نهجًا وزُقاقًا زقاقًا وأقول سُوقًا سُوقًا وبنايةً بنايةً وبابًا بابًا وأحسبني على يقين لأنه يُبيّن لك معنى اِسم كلّ منها وسبب تسميته وطرائف نقل الاِسم إلى اللغة الفرنسية بما يأتي بالغريب والعجيب فحدّثنا مرّة أنه كان في لجنة من اللّجان المكلّفة بأسماء الشوارع والأنهج الجديدة في أحد الأحياء الجديدة ورأت اللجنة أن تسمّيَ البعض منها بأسماء الشهداء والمناضلين القدامى فأسندت اللجنة اِسم الشهيد البطل ـ مصباح الجربوع ـ لأحد الأنهج غير أنّ هذا الاِسم لم يرُق لبعض الوجهاء الساكنين في الحيّ فطالب بما له من نفوذ أن يغيّروا الاِسم باِسم آخر حَسَنِ المعنى ونزولا عند رغبة ذلك السيّد تغيّر الاسم وأصبح ـ نوّار عشيّة ـ أو ـ مِسك الليل ـ فتمّت ترجمة الاسم المقترح: belle de nuit فتراجع ذلك السيّد غاضبا معبّرا عن رفضه للاِسم الجديد لأنه سيّء الإيحاء في اللغة الفرنسية.

ـ6 ـ

وللدكتور وَلعٌ كبير باللّغة عامّة وباللغة التونسية خاصة فتراه يسعى إلى التذكير باللغة اليومية الجميلة التي كان يستعملها التونسيون بما فيها من دقّة وظُرف ويُبدي اِزدراءه من أحاديث القوم الهجينة في خطاباتهم اليومية إذ يراها خليطا متنافرًا من الفصحى والفرنسية حتّى في وسائل الإعلام من إذاعات وتلفزيونات وفي نصوص الإعلانات والرسائل القصيرة عبر وسائل الاِتصال وكم من مرّة يحدّثنا عن أصول بعض الكلمات وقد رجع إلى لسان العرب وإلى اللغات الأخرى مثل الأمازيغية واللاتينية والإسبانية والتركية والفارسية وغيرها فكثير من الكلمات التي نتكلم بها يوميًّا تعود في أصولها إلى هذه اللغات كالعلّوش والبرشني والسّردوك والكوجينا والفكرون والدّورُو وغيرها فالدكتور تونسيّ اللّسان والوجدان والهندام أيضا فتراه ـ يحطّ الحطّة ـ أي في ـ أحسن هندام ـ باللباس التونسي الأصيل من الجبّة ذات الصدريّة والبدعيّة والمنتان والشّملة على الكتف والشاشية مع البرنس إذا فرض الطقس ذلك وكلها تبدو في تناسق سنفونيّ بديع وترى كذلك صديقي الدكتور أيضا في المناسبات الرّسمية أيضا: tiré à quatre épingles

أي في أناقة كاملة باللّباس الإفرنجي في اِنسجام وتمام بين الألوان من الحذاء إلى رباط العنق ومنديل الجيب فتبارك الله أحسنُ الخالقين لطلعته البهيّة يزيدُه الوقارَ عكّازهُ المنسجمُ وقعُهُ مع إيقاع خُطاه في ثبات واِتّزان متّعه اللّه بالصحّة والعافية وطول العمر فالحديث معه فائدة ومعرفة والجلوس إليه متعة وأنس.

ـ 7 ـ

ويحدّثك الدكتور في سياق ما يحدّثك عن لقبه العائلي ونِسبته إلى قبيلة ماجر التي يفخَر بالانتساب إليها فقد جاء والده من مضارب ربوع القصرين إلى العاصمة في مُقتبل العمر فنشأ فيها وترعرع وتوظّف ومنها تزوّج لكنه كان يُنسَب دائما إلى كونه من ـ ماجر ـ فهو الماجري دائما كي لا يلتبس اِسمه مع العائلات التونسية القديمة في العاصمة بل في المدينة العتيقة أساسا وللدكتور تفاصيل في هذه المسألة التي كانت في العهود السابقة تعبّر عن تفرقة بين سكان العاصمة الأصيلين وبين القادمين عليها من مختلف الجهات التي ينسبونهم إليها بل إن الدكتور يرى أن التفرقة لم يسلم منها حتى سكان العاصمة أنفسهم فالفرق لديهم واضح بين من كانت عائلته داخل السّور الأصلي وبين الذي كانت عائلته من سكان خارج السّور الأصلي أي من حيّ باب سويقة والحلفاوين وباب الجديد وباب الجزيرة وغيرها ويؤكّد الدكتور دائما على النواحي السلبية لهذه العقلية المحافظة والتي نجدها أيضا مبثوثة في بقية المدن مع الأسف وإنّ تمسّك الدكتور بمحبّة حَيّه الأصليّ ـ باب سويقة ـ هو الذي جعله يفتح عيادته الطبية الخاصّة في تلك الناحية ويبني منزله قريبا منه أيضا على عكس الكثيرين من أصيلي تلك المنطقة التي رحلوا عنها وهجروها لكن الدكتور ظل وفيّا للنّاس الذين اِحتضنوه يتيمًا وأحاطوا به صغيرا وشجّعوه على الترقّي في مدارج العلم والمعرفة فاِحترموه طبيبا بينهم وبَوّؤُوه مراتب التبجيل والإجلال.

ـ8 ـ

ما يشغل الدكتور وما يجعله على ما لا يُرام هو أسفُه الشديد على ظروف تونس السيئة فتونس يرى أنّها ثريّة بعديد المواهب والطاقات في جميع المجالات وأنها زاخرة بالكفاءات العالية التي لو يتمّ توظيفها على قاعدة الرّجل المناسب في المكان المناسب لرأينا البلاد أحسن بكثير ممّا تعيش فيه الآن من بؤس وتدهورعلى جميع المستويات.

وكم الدكتور يحاول في كل يوم وفي كل مناسبة أن ينشر حُبّ المطالعة والكتاب بين الأطفال والشباب وحتى بين الكهول والشيوخ وهو الحريص على إبلاغ الناس جميعا والأجيال الجديدة خاصة ما لتونس وشعبها من عبقرية وإنجازات في شتّى الميادين ساهمت بها عبر التاريخ في الحضارة الإنسانية.

ـ9 ـ

الدكتور مثال لقول الجاحظ ـ الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف ـ فهو إذا حدّثك عن الطبّ أفاد وإذا تكلّم في الحضارة والتاريخ تبحّر وإذا تطارحتم في كلمة من الكلمات فصّل وشرح وإذا ذُكر عنوان كتاب ذكر لك ما فيه وبسط القول حول صاحبه وإذا دار الحديث عن أيّ مكان من العاصمة تونس فإنه يرجع بك إلى أصله وأطواره ووقائعه في إمتاع فلا تملّ من حديثه أبدا ,

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

في المثقف اليوم