أقلام ثقافية

سناء أبو شرار: هل يكتب الكاتب ليكتب أم ليحيا؟

أن يكتب ليكتب فهو مجرد كاتب

وإن كتب ليحيا فهو كاتب حقيقي

أرفع ما في الكتابة هو قدرتها على اختزال الصور والمعاني، الأشخاص والمواقف، ويصبح مقامها أعلى حين تتمكن من جعل السطور الرقيقة على الأوراق عالم كامل يتحرك ويتحدث، يتفاعل أو يتمرد، ينسحب أو يبسط أجنحته في عالم الخيال أو يتجرد إلى أن يصبح صخره في واقع أقسى من ملمس الجبال.

هذا الكاتب المصور والرسام، المفكر أو المقلد لماذا يكتب؟ هل هي الموهبة فقط التي تدفعه لهذا العالم الموازي للعالم الحقيقي؟ الموهبة تكون السبب في بداياته في الكتابة، فهناك شيء ما دفين ولا يمكن تفسيره يدفعه للكتابة، شيء ما غامض يجعله ينفصل ولو لدقائق عن عالمه المجرد ليرسم عبر السطور عالم آخر ويبتدع أفكار أخرى، أو ربما يجد متعته بأن يُمسك القلم ويخط الكلمات بلا هدف ولا خطة.

ولكن مع مرور الوقت وحين يعلم أن الكتابة أصبحت جزء من ذاته، لا يكتب فقط لأنه يتمتع بموهبة الكتابة، فما كان يستمتع به أصبح مسؤولية تلازمه، لابد أن يفكر قبل ان يكتب، لابد أن يراقب ويدقق في الأحداث والظروف والمشاعر، يتحول دوره إلى المراقب والراصد ثم المحلل.

ولكن في مرحلة ما لابد أن يسأل نفسه أو بالأحرى تسأله نفسه: لماذا تكتب؟ فإن كان يكتب لأنه كاتب وهذه موهبته وربما حرفته فهو مجرد كاتب وسيبقى كذلك لأنه لم تُفتح له آفاق أخرى في الكتابة عدا عن الرصد والنقد والتحليل.

الفرق الجذري بين الكاتب الحقيقي والمجرد كاتب، هو ان تتحول الكتابة إلى حياة وليس مجرد انعكاس للواقع، أن تنمو في ذاته عوالم أخرى غير مرئية يتمكن من خلالها أن يكتشف ذاته وذوات الآخرين، فالإنسان في حالة اكتشاف لذاته وللآخرين كل سنوات حياته، فمن يعتقد أنه يعرف ذاته بشكل كامل سوف يكتشف أو حتى يُصدم في وقتٍ ما وبموقفٍ ما أنه على خطأ وكذلك فيما يتعلق بمن حوله، حين يدرك الانسان هذه الحقيقة يزول عنه عنصر الصدمة ويصبح أكثر حكمة بتقبل الأشياء؛ والكاتب الذي أدرك هذه الحقيقية يكون في حالة توقع لكل تغير وتقبل لكل تبدل في حياته أو حياة الآخرين؛ ولكن يبقى شيء ثابت في نفسه وهو قدرته على الانسحاب إلى عالم داخلي بناه بصورة فردية لم يشاركه به أحد، هناك حيث لا صديق له سوى قلمه واوراقه وهذا العالم الذاتي النائي عن الآخرين هو بالذات ما يجعله قادراً على الحياة بصورة مختلفة عن الآخرين، فهو يكتب ليحيا وليس ليكتب فقط، ومن هنا أيضاً يأتي صفاء الفكر واتساع الخيال، فلا صفاء بحضور الآخرين ولا اتساع بوجودهم الجسدي أو المعنوي؛ أن يتجرد الكاتب من حضور الآخر، وأن يتجرد من مفاهيم مكررة وان يبني مدينته الخاصة هو أن يحيا حياة إضافية، هو أن يكتب بعمق أكبر وأن يحتاج لهذه الكتابة لأنها تتحول مع الوقت ومع عمق الفكرة والسعي نحو الحكمة إلى إمداد معنوي وروحي لا يستطيع أن يعيش بدونه، فعوضاً عن أن يكتب لأنه هناك حاجة للكتابة بمواضيع كثيرة، فيكتب لأنه هو نفسه بحاجة للكتابة ليحيا في حيوات متنوعة، أو لينتقل إلى حياة أخرى، أو ليرحل لعالم آخر، فبدلاً من أن تكون الكتابة مركب شراعي صغير يطفو على مياه البحيرة الراكدة، تتحول إلى سفينة تجوب بحر أوسع وأعمق وأبعد.

مثلما لا يمكن لطفل ان يكتفي من البحر بأن يعبث برماله وتتبلل قدماه بمائه، فلابد له من أن يرغب بالذهاب لأبعد من ذلك، وكذلك الكاتب الحقيقي لا يمكن أن يحيا على الشاطئ لابد أن يُبحر بعيداً ولابد أن يكتشف أعماقاً أخرى، ولابد ألا يستطيع الحياة دون ذلك الإبحار البعيد والدائم.

***

د. سناء أبو شرار

في المثقف اليوم