أقلام ثقافية

تحت المظلة.. لوحة سريالية رامزة بريشة نجيب محفوظ

حاتم السرويفي الفترة بين أكتوبر وديسمبر لعام 1967م كتب الأديب الراحل نجيب محفوظ مجموعته القصصية " تحت المظلة " والتي تحمل اسم القصة الأولى في المجموعة التي يشيع فيها القلق وحِدَّة الأحداث ومشاهد العبثية مع الحركة غير المبررة والنهايات غير المنطقية؛ فكأننا أمام لوحة سريالية مرسومة بقلم أديب عرفناه ببراعته في الجمع بين الفن والفلسفة لينتج لنا تحفًا إبداعية تزيدها الأيام قيمةً وجمالا.

وفي قصة " تحت المظلة " تتوالى الأحداث المبهمة بوتيرة متسارعة في غياب كامل لكل ما هو منطقي.

وقد جاء المطر ليشكل فاصلاً شفافا بين مظلة في محطة لانتظار الباصات ربما كانت رمزًا للدنيا- ويبدو أن الجالسين تحت المظلة من الصفوة لأن لهم وحدهم امتياز الجلوس تحت المظلة لتحميهم من الشمس أو المطر- وبين طريق تقع فيه أحداث غريبة لا يألفها البشر ولا يرونها إلا في الكوابيس.

والقصة كما تبدو لنا تستعين كثيرًا بالرمز وهو رمز غير مكشوف ولكنه كاشف؛ فهذا العمل هو نتاج لحالة من الإحباط العام والمشاعر العدمية والألم النفسي الذي أفرزته الهزيمة، إذ كان المصريون والعرب يعيشون في أجواء مفعمة بالأمل والطموح، وكانوا يفرحون بأحاديث الراديو والصحف عن منجزات عظيمة صنعها نظام 23 يوليو وكانوا يتوقعون أن ينهزم الكيان الصهيوني على أيديهم لا أن يهزمهم هو.

واستيقظ المصريون والعرب على وقع الهزيمة، ولم يعد أمامهم إلا التفكير فيما حدث، كيف يمكن أن يكون قد حدث؟ وما السبب؟ لكل هذا كتب محفوظ " تحت المظلة " و "الجريمة " وفيهما قصص وإن كانت واقعية لكنها أقرب إلى الخيال، فكأنما نشاهد أفلامًا للرعب، وليس في هذه القصص ما يمكن أن نفهمه ولكن فيها ما يمكن أن نتحاشاه، تلك هي القضية.

ومن يظن أن محفوظ كان يكتب لوحات أدبية لا تضيف إلا قيمًا جمالية معينة هو مخطئ دون أدنى شك؛ لأن محفوظ كان يتسائل ويتأمل ويدفعنا بقوة جاذبة إلى التساؤل والتفكير، قوة سحرية تأخذنا إلى القراءة ثم التساؤل وأخيرًا محاولة الوصول إلى معنى، وهو في كل هذا شديد المرونة؛ فقلمه ساحر وانسيابي لا يشعر القارئ بأية معاناة، إلا تلك المعاناة الناتجة من توحده مع الأبطال وما يشعرون به من خوف وقلق وحيرة وترقب.

ورموز أديب نوبل رموز مفتوحة قابلة لشتى أنواع التأويلات، تعال معي لنرى ونسمع.

ما كان يحدث في الشارع كان من الخطورة بمكان، وقائع صادمة واختراق لكل القوانين والأعراف والديانات، إلا أن الواقفين تحت المظلة يبدون وقد انتابتهم حالة من الكسل والركود، ثم السلبية الشديدة والعجز وفوق هذا قلة الحيلة، وقد أمضوا وقتهم في الفرجة وانتظار تدخل الشرطي ( رمز الحكومة التي هي بالنسبة إليهم مبعوث العناية الإلهية والبطل المُخَلِّص) فيما الشرطي يقف بمدخل إحدى العمارات يتفرج هو الآخر!.

وتتطور أحداث القصة، وتعلو الدهشة وجوه الواقفين، وداخل كل منهم رغبة في منع ما يقع أو في فهمه على الأقل؛ لكنهم لا يبرحون أماكنهم خوفًا من المطر! مع أن الذين أمسكوا باللص وضربوه لم يخافوا من المطر، واللص أيضًا وهو يترافع أمامهم مدافعًا عن نفسه لم يشعر بأي خوف، بل إنه في سياق المرافعة يعلو صوته ويلوح بيديه كمن يخطب، والذين ضربوه للتوِّ وقفوا ينصتون ويتناقشون فيما بينهم والمطر ينهمر.

كل هذا يحدث وأصحاب المظلة يضربون أخماسًا في أسداس، ويظنون أو يظن بعضهم أنهم بإزاء مشهد سينمائي سوف ينتهي عما قليل.

ولكن أين مخرج الفيلم؟ لابد أنه يربض خلف إحدى النوافذ، وسوف يظهر في نهاية المشهد وهو يصيح قائلاً: "كاااااط" بلغة المخرجين.. والشرطي ما دوره؟ ربما هو ليس شرطي من الأساس؛ فقد يكون أحد الممثلين ينتظر دوره؛ فالعملية ليست عبثًا!.

وفيما رواد المظلة يتفرجون كعادتهم انطلقت من ناحية الميدان سيارتان في سرعة جنونية؛ أولاهما تطير فوق الأرض، والأخرى توشك أن تلحق بها، ويبدو أن بينهما مطاردة حامية. وإذا بالأولى تفرمل فجأة حتى أنها زحفت فوق الأسفلت فصدمتها الثانية صدمة عنيفة مدوية، وانقلبتا معًا ليحدث انفجار ضخم، ولم يتحرك أحد... فلا أصحاب المظلة ركضوا لينقذوا الضحايا، ولا المتحلقين حول اللص الخطيب تركوا ما هم فيه، ولا الشرطي يريد أن يبرح موقعه.

المطر يلجم الجميع عدا اللصوص والقتلة، وأيضًا الزناة الذين سوف نشهدهم بعد قليل، والسيد اللص ينتهي من خطابه ثم ينظر إلى مستمعيه في ثقةٍ واطمئنان، وفجأة يخلع كل ملابسه ويرمي بها فوق حطام السيارتين اللتين أطفأ المطر نيرانهما، ويتجرد عاريًا ثم يدور حول نفسه كأنما يستعرض جسده! وأخيرًا يرقص في رشاقة المحترفين، يا الله.. عرض استربتيز رجالي وسط الطريق، ما هذا الإبداع؟؟.

ثم يصل بنا الكاتب إلى المسخرة كما يجب أن تكون؛ إذ يتواعد عاشقان كلٌ من نافذته أمام المارة، وينزلان من إحدى العمارات والمرأة على أهبة الاستعداد لممارسة (الحب) ويحدث التعري للمرة الثانية دون أدنى مبالاة بالمطر أو بالشارع أو حتى بجثة قتيل مطروحة في نهر الطريق على إثر الحادث الذي وقع منذ قليل، والذيكان من الممكن أن ينقذه الواقفون تحت المظلة!. وتحدث ممارسة جنسية كاملة ورأس المرأة فوق جثة القتيل.

إن لم يكن هذا تصويرًا فهو فضيحة، وإن كان حقيقة فهو جنون، والشرطي يشعل سيجارة!. وهكذا تمضي الأحداث الغريبة بواقعية تامة، وهذا هو المؤلم، واقعية ولا معقولة في نفس الوقت، هذا ما نعرفه من حوار دار بين الواقفين تحت المظلة:

" – هذه أحداث حقيقية لا علاقة لها بالتمثيل.

- ولكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة على نحوٍ ما.

- لا داعي لاختلاق الفروض. "

لا أحد يفهم، ولا أحد يريد أن يتحرك لمنع هذه الفوضى، بل ولا تخرج صيحة اعتراض، عجزٌ مطلق وسلبية قاتلة، والحجة المرفوعة: " المطر غزير، ماذا نفعل؟ ".

ثم يعبث بنا محفوظ أكثر فأكثر عندما يكسر حاجز التوقعات كل مرة؛ فالمخرج لهذا المشهد السينمائي المفترض ليس مخرجًا في الحقيقة، رغم أنه يراقب الأحداث، ويتجول بمنظاره المكبر بين الأركان، ويتمتم: " لا بأس.. لا بأس.. استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البداية"!.

وبعد قليل يأتي من يطارد (المخرج) فيركض هاربًا، وتستمر المشاهد الجنونية المخيفة، وبتسلط علينا الرعب.

ثم...؟ ثم تباغتنا معارك بين مجموعة من البدو الذين لا ندري ما الذي جاء بهم إلى صلب المدينة، وكأنما نشاهد حرب داحس والغبراء، وبعد أن يتحاربون فيما بينهم يدخلون في حرب مع سياح أجانب نزلوا للتوِّ من باصاتهم.. دماء وأشلاء ورأس مقطوعة، وعمال يبنون قبرًا فيضعون فيه (العاشقين) وهما على قيد الحياة، ويبنون بجواره سريرًا من حجارة يطرحون فوقه جثث قتلى السيارتين.. ما الذي أراد محفوظ أن يقوله؟ ...... ولكنهما ارتكبا خطيئة، أليس كذلك؟.. غير أن العمال عالجوا الخطيئة بحماقة.. ربما.

وفي النهاية عندما يضج أصحاب المظلة من بشاعة المناظر وانتظار الفرج نراهم يتشبثون بخيط الأمل الأخير؛ ذاك الشرطي الواقف دون مبالاة يشاهد العبث والألم والجنون، ويدخن ولا ينطق بكلمة.

الشرطي هو الوحيد القادر على إيقاف ما يحدث، هكذا كان لسان حالهم، والتفسير لم يعد أمرًا مهما، والأحداث حقيقية بغض النظر عن جنونها المطبق، والكل بإزاء الأمر الواقع ليس عليهم أن يفهموا، عليهم فقط أن يعلنوا رغبتهم في إنهاء ما يحدث.

وبعد إلحاح يحضر الشرطي إلى أهل المظلة، ويتفحصهم بقسوة ويسألهم في تذمر: ما شأنكم؟ وحين يكلموه عما حدث في قلب الشارع العمومي يدخل بهم في س وج ويسألهم عن سبب وقوفهم بعد أن ركب الجميع المواصلات، ثم يطلب منهم بطاقات الهوية الشخصية، وحين يتحقق منها يقتلهم جميعًا فينطرحون أرضًا وينزل المطر فوق رؤوسهم!.

عزيزي القارئ، هذه القصة لم تكن إلا رمزًا لما كان يحدث في مصر من وجهة نظر نجيب محفوظ، أخطاء وخطايا وكوارث كان من الممكن ألا تقع لو أصحاب المظلة أو بعضهم على الأقل أن يمنعوها.

ولكن من هم أصحاب المظلة الذين خافوا من المطر فماتوا ورؤوسهم في الوحل؟.. نعم، هذه القصة مرسوم إدانة للنخبة المثقفة.. ألا تتفقون معي؟.

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم