أقلام ثقافية

عن مادة النص.. الحكاية وفضاء التاريخ

يسري عبد الغنيلا أريد أن أنصّب من نفسي ـ هنا ـ ناقدا لعمل ما أو عدة أعمال في هذا الفن الجميل، ولكنني أردت تقديم بعض "الأفكار" الارتكازية المؤسسة لإثارة بعض المداخلات والتعقيبات والشهادات والحوارات حول هذا "الموضوع" الذي أجده ويجده زملاء لي نحن جماعة أهل القلم من أدباء وروائيين وفنانين وصحافيين مثقفين يعشقون الروي التاريخي  وستطيب لنا الشراكة في أي لقاء أو اجتماع، كي نراجع معا دور كل من التاريخ والفن في خلق وإبداع رواية تاريخية عربية متميزة  وثمة أفكار لدينا، قد تتلاقى أو تتقاطع وقد تتشظى وقد تتصادم في إطار من المعرفة والتجربة والرؤية والمنهج والتفكير

كيف؟

ذلك أن الفن الروائي التاريخي هو بمثابة البحث الذي يمتزج فيه الخيال بالواقع، ليس عن علاقة الإنسان بمروياته الصرفة في مجال التاريخ ذلك "المجال" الذي يجمع خصبه العربي الزاخر بجغرافية المكان انه "فن" لا يؤرخ للأحداث، ولكنه: تجديد حيوي فعال لذاكرة الماضي بكل مواريثه الحية المزدحمة بالمفارقات والإحداثيات والمنصوصات والشخوص والبطولات والمأثورات والمصورات والتباينات  الخ ..

إنه "فن" يختزل الزمن ويوّسع من المكان باقترابه منه أو ابتعاده عنه انه "فن" لا يقتصر على البقاء والإبقاء في اطر السرد التاريخي في تراكيب جامدة لا حياة فيها، كما يفعل ذلك المؤرخون الجامدون من النقالين والمقلدين والسرديين والتركيبيين وعبدة النصوص والشكليات وأصحاب الطقوس الوعظية الهامشية  لكنه من طرف آخر، لا يقبل الابتعاد عن الحقائق التاريخية وروحها، بخلق ما ليس له حياة وواقع وتاريخ  كما وانه لا يعمد على الانطلاق في رحاب الخيال الأسطوري وفضاءاته الواسعة والمتنوعة ؛ بل انه يختص قبل أي شيء بإحياء اللحظة التاريخية المنتهية في الذاكرة العربية، مهما بلغت درجتها في الصغر

وماذا أيضًا؟

إنه فن صعب التحقيق: مادة وكتابة وتحريرا  مضمونا وخلقا وإبداعًا، انه فن معقد في إنتاجه بجعله أصحابه من الروائيين المبدعين يمشون في الأعالي على خيوط قوية، لا يريدون النزول إلى كنف المناهج والمحددات والاعتبارات العلمية 00 كما لا يمكنهم التبخر في ضباب ما وراء الواقع وما وراء التاريخ وما وراء المكان وما وراء الطبيعة  كما يراها ريتشاردز بـ "الماورائيات" التي ربما باستطاعة الروائي استخدامها في كتابته لصنوف أخرى من الروايات باستثناء " الرواية التاريخية" .

ولكن كيف؟

إنه فن يسحب التاريخ إلى صاحبه بكل موجوداته على عكس ما يفعله المؤرخ عندما يسحبه العلم إلى أعماق التاريخ 00 وانه فن لا يقيد صاحبه عن التأملات الرمزية، وخصب الخيالات في طبيعتها عندما يستأذن الروائي ذلك من القارئ المتلقي 00 فلا يكاد يخلو أي مشهد أو لحظة أو صورة أو لمحة  من محاولة اقتناص الما وراء، ليس من أجل إدراك السر، بل من أجل إكمال الصورة الحقيقية أو الصورة الأخرى المقاربة للحقيقة أو الصورة المشكلة من جزيئات كانت قد ابتعدت عن الحقيقة ! وربما كان ذلك " الرمز " هو المسمى بـــ " المؤطر " للرواية التاريخية الأقرب إلى الحقيقة منها إلى الوهم !

تجاوزات!!

ثمة تجاوزات عند البعض من الروائيين السلطويين أو المؤدلجين أو المتزمتين غير الموضوعيين أو الحياديين أو الحقيقيين بمجانبتهم الحقائق، وخلق صور وأشكال ومضامين وألوان وحوار  لا حقيقة لها، ولا تاريخ عنها، ولا مصداقية فيها ..

كل ذلك قد يأتي إرضاء لسلطات سياسية أو اجتماعية  وقد تأتي ضمن تشوهات أيديولوجية معينة عن نظم وتواريخ وشخوص  أو قد تأتي منطلقة من زوايا أحادية في النظر إلى التاريخ: مذهبية كانت أم طائفية أم استعمارية أم دينية أم غير ذلك من المرجعيات المتنوعة

والرواية التاريخية لا حياة لها دون " المكان " سواء في جمالياته الرائعة أم في تشوهاته البائسة  ذلك أن الجغرافية وتنوعاتها، قد يلهمها الراوي في أسلوب رويه أعلى درجات العبقرية الساحرة أو أدنى درجات البشاعة الجائرة ! ولم تكن الجغرافية التاريخية العربية الإسلامية في يوم من الأيام: جغرافية واهمة أو موهومة  ربما تتبدل من حين إلى آخر، ولكنها كانت على امتداد التاريخ ولم تزل على أحسن ما تكون من التنوع والتلون والسحر  وعلى حد قول المستشرق الفرنسي المعاصر أندريه ميكال حين ذكر متسائلا:

(لماذا لا نـــأخذ نصوص الأدب الجغرافي الإسلامي باعتبارها تشكل كّلا واحدا، هادفين إلى استعادة العالم الذي كانت تحسه وتدركه، وربما تتخيله وتتصوره وجدانات ذلك العصر أو العصور التالية  والغوص في هذه النصوص الرائعة للمشاركة في رؤيتها للعالم)

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم