أقلام ثقافية

عاجل.. من الشنفرى إلى المثقفين العرب!!

يسري عبد الغنيالشنفرى هو: ثابت الأوسي، شاعر جاهلي ينتمي إلى قبيلة الأزد، ولقب بالشنفرى لضخامة شفتيه، عرف هو ومن نهج نهجه في الحياة من الشعراء العرب "بالصعاليك"، وكان الشنفرى من العدائين المشهورين في الجاهلية، وبه ضرب المثل في سرعة العدو، فقيل: " أعدى من الشنفرى " .

عندما تذوب ذاتية الفرد:

كان للحياة في القبيلة العربية قيودها، وكانت ذاتية الفرد غالبًا ما تذوب فيها، فيشعر بذاته من خلال شعوره بها، ويتعصب لها بحق وبغير حق، ولا يرى إلا ما تراه .

وكان من الشعراء طائفة خرجوا على تقاليد القبيلة، وعاشوا منفصلين عنها، وآثروا لونًا من الحياة، فيه تحرر من هذه التقاليد، وكان ذلك مثار خلاف بينهم وبين قبائلهم، ومن هؤلاء الشعراء الشنفرى صاحب القصيدة المعروفة باسم " لامية العرب"، والتي عارضها أكثر من شاعر على مر عصور الأدب العربي، وسوف نقف أمام بعض أبيات للشنفرى من هذه القصيدة، ونجد فيها عتب شديد على قومه، وهو في واقع الأمر يثير قضية مهمة لا ينتهي طرحها بالتقادم، ونعني بها أن المثقف سيظل دائمًا وأبدًا هو درع الأمة الواقي، هو المدافع والمناضل عنها في محنتها ومصاعبها، والعار كل العار له إذا ترك الجمل بما حمل وفر هاربًا من المواجهة، في هذه الحالة يكون ملكًا للسلب الأعظم، وفي نفس الوقت يكون قد ارتكب وزرًا لا يغتفر، هيا بنا نستمع إلى الشنفرى، وبعد ذلك نقف على القضية القديمة / الحديثة التي أثارها .

الحفاظ على الكرامة:

يقول الشنفرى:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حُمت الحاجات والليل مقمر

وشُدت لطيات مطايا وأرحل

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذي

وفيها لمن خاف القلى متحول

بدأ الشاعر حديثه بصيحة في قومه: أن ينتبهوا جيدًا، فإن الأمر أكبر من أن يواجهوه في تغافل وعدم اكتراث، فقد عزم أن يرحل عنهم، ويستبدل بهم قومًا آخرين، ترتاح لهم نفسه، ولا يجد في ظلهم ما وجد بين قومه من ضيم .

ويذكر أن كل شيء مهيأ للرحيل، فقد انتهى الأمر، وأصبح شيئًا مقضيا، والليل مقمر والسفر فيه ملائم، والمطايا مهيأة للارتحال .

ويعلل رحيله عن قومه بأن في الأرض متسعًا لذي النفس الكريمة، يبعد فيه عن موطن الظلم والقهر في قبيلته أو موطنه، ويتجنب به مشاعر البغض والكراهية بينها وبينهم، فما ينبغي لمثله أن يصبر على ما يلقى من أذي، وما يتوقع من كراهية .

ويقول:

أديم مطال الجوع حتى أميته

وأصرف عنه الذكر صفحًا فأذهل

وأستف ترب الأرض كي لا يرى له

عليَ من الطول أُمرؤ متطول

ولولا اجتناب الذام لم يبق مشرب

يعاش به إلا لدي ومأكل

ولكن نفسًا حرةً لا تقيم بي

على الضيم إلا ريثما أتحول

الشنفرى يبين أنه ليس ممن يرضون الحياة الذليلة، لأنه كريم على نفسه، قادر على كبح شهواتها مهما كانت، حتى إن الجوع لو لذعها لقاومه، واستمر في مقاومته ومماطلته، ليقتل فيها الشعور به، ثم يضرب عنه صفحًا إلى أن ينتهي هذا الإحساس فيها، وتذهل عنه .

ويؤكد هذا المعنى بأنه لو اضطر أن يأكل تراب الأرض لأكله، وفضل ذلك على أن يمن عليه أحد بنعمة أسداها إليه .

وأخيرًا يصرح بأن الذي يدفعه إلى مثل هذه الحياة أنه يربأ بنفسه عما فيه عيب لها، وإذلال لكبريائها، ولولا ذلك لعاش عيشًا رغدًا، ينال فيه من طيب المأكل والمشرب ما يشاء، ولكن له نفسًا حرة أبية، لا تكاد ترى ظلمًا حتى تنصرف عنه إلى حيث الحرية والكرامة .

رحيل لا رجعة فيه:

نلاحظ أن هذه المقطوعة التي اخترناها من لامية الشنفرى قد بدأت بنداء: " أقيموا بني أمي صدور مطيكم "، لأن تنفير المطي إنما يكون في الأمور الكبيرة التي يتأهب القوم للركوب لها، ثم يفاجئ القبيلة بقوله: " إني إلى قوم سواكم لأميل "، ليشعرها بأن رحيله عنها ليس من الأمور اليسيرة، التي تقابل في هدوء أو في تغافل ولا مبالاة .

ولا يكاد الشنفرى يشد الانتباه بهذا النداء، حتى يقدم صورة للاستعداد السريع للرحلة، مكتفيًا من التهيؤ للسفر بإشارة تعرض اللحظات الأخيرة منه، وذلك في قوله: " وشدت لطيات مطايا وأرحل "، وكأن الشاعر أغفل كل ألوان الاستعداد الأخرى ليفاجئ قومه بهذه الصورة، التي تدل على عزم على الرحيل لا رجعة فيه .

ومن البراعة بمكان تصويره لمقاومة الجوع عندما يقول: " أديم مطال الجوع حتى أميته "، والجميل فيها أنه شخص الجوع، وصور صراعًا عنيفًا بين الشاعر والجوع  .

ويدفعه الشعور بالمرارة والأسى إلى قوله: " واستف ترب الأرض "، وذلك دلالة على قمة التحمل، مع مبالغة مصدرها هذا الشعور  .

تأملات:

إن الثورة على الظلم والقهر أمر محمود لا جدال فيه، ولكن لكل مجتمع عاداته وأعرافه وتقاليده وقيمه وأخلاقياته التي تعطيه خصوصيته، وتميزه بهويته دون سائر المجتمعات، وأهل العلم والفن والإبداع هم أدرى الناس بخصائص وسمات مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن الواجب عليهم تنقية هذا المجتمع من الشوائب والسلبيات التي تعتريه دون أدنى مساس بثوابته التي يعتز بها أفراده، فدور النخبة أو الصفوة هو الإصلاح التدريجي، الإصلاح الهادئ العاقل الذي يعتمد على المنطق والمنهج العلمي السليم بهدف الإصلاح والارتقاء و النهوض بمجتمعاتهم .

فلا يليق بالصفوة أن تهرب من السفينة كالجرذان المرتعبة بمجرد أن توشك السفينة على الغرق، كما لا يليق بها أن تطبل وتزمر وتركب الموجة وتنافق لمن يميل الميزان له دون أدنى ضمير أو مراعاة للصالح العام .

إن الشنفرى قرر أن يتمرد لأنه يختلف مع قومه في بعض الأمور، فتركهم لينضم إلى موكب الصعاليك، فهل أفاد الرجل قومه ؟، وهل غير منهم ؟، لقد فاته أن مجتمعه لا يعرف الذاتية، بل إن ذاتية الإنسان في انتمائه إلى قبيلته، إلى أمته، إلى وطنه، مهما كانت الصروف والظروف والأحوال .

والله ولي التوفيق.

 

بقلم. د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم