أقلام ثقافية

سحر بابل وحضارة العراق

حاتم السروي(العراق ليست بلدًا عاديًا) تلك هي خلاصة ما توصلنا إليه من البحث التاريخي في حضارات الشرق الأدنى، وحضارة العراق بدأت منذ نحوٍ مبكر، ونعرف أن سومر القديمة كانت دولة تقع فيما بين النهرين، أعني دجلة والفرات، وكانت تمتد حتى هضبة الأناضول شمالاً، ومنطقة الخليج الفارسي جنوبًا.

كما أن حضارة بابل عاصرت الحضارة المصرية القديمة أو الفرعونية، وكانت هناك منافسة مستمرة بينهما طوال عصور ما قبل الميلاد، كما أنه يوجد الكثير من التشابه بين معتقداتهما، وخاصةً من حيث تعدد الآلهة وكثرتها، والأساطير المتعلقة بهذه الكائنات العلوية التي نسجها الخيال البشري.

ومن بعض أسرار الحضارة العراقية القديمة (أسطورة الخلق) إذ تقول الأساطير البابلية القديمة أن الماء هو أصل الخليقة، وأنه من خليطٌ من الماء المالح (تيامات) والماء العذب (إبسو) جاءت كل المخلوقات بدايةً من الآلهة الكبرى؛ فمن نسل تيامات وإبسو جاء الإلهين (إنشار) و(كيشار) يعني السماء والأرض، ومن تزواجهما جاءت جميع الآلهة، والتي لكل منها اختصاص محدد في مجالات الحياة! وأظهر تلك الآلهة (آنو) إله القوة، و(آيا) إله الذكاء والمعرفة والسحر البابلي.

وتستمر الأسطورة في سردها الشائق فتحكي لنا أن الإلهة (تيامات) غضبت على أولادها وأحفادها فقررت أن تلد ثعابين وحيات لتؤذيهم وتبيدهم، وقررت الآلهة الأخرى الثورة والمقاومة، ولم يفلح منهم إلا واحد من أبناء الإله (آيا) وهو الإله (مردوخ) والذي هو أشهر الآلهة البابلية وأقواها، كما أنه سيد الآلهة عند الأشوريين.

وتدخل بنا الأساطير في ملاحم طويلة حدثت في حرب الإله (مردوخ) مع (تيامات) وفي النهاية انتصر مردوخ وقتل تيامات، ثم انصرف لخلق الأشياء؛ فخلق الزمان ثم خلق الأرض وما عليها، ثم خلق الإنسان؛ وبهذا أصبح مردوخ هو إله بابل الأهم أو هو (رب الأرباب) مثلما كان (آمون) الإله الأعظم في طيبة عاصمة الحضارة المصرية القديمة، ورغم أن مردوخ صار الأقوى غير أنه لم ينسَ فضل أبيه إله الذكاء والمعرفة (آيا) الذي يملك مفاتيح العلوم ويعلم السحر والفلك؛ فظل (آيا) إلهًا مميزًا عالمًا بالأسرار، وهو في ذلك يماثل (تُحُوت) الإله المصري الذي قدسه اليونان أيضًا ومنحوه الاسم الإغريقي المعروف (هرمس) ولقبوه بمثلث الحكمة.

واعتقد البابليون أن العالم يمتلئ بمخلوقات خفية غير ظاهرة وهي (الجن) وبهذا تكون الحضارة البابلية هي أول من ذكرت وجود الجن، وقد أكد القرآن على وجودهم وأن الجن مخلوقات نارية لها قدرات فائقة، ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وقد وضعت الأساطير البابلية الجان في مركزٍ يأتي بعد الآلهة، ولكنها على أية حال قادرة على فعل بعض الخوارق التي لا يملكها الإنسان، ثم قسمت الجن إلى نوعين؛ الجان الصالح (شيدو) وهم الأرواح الحارسة التي تحمي الناس من الشرور، وتحمل منهم الابتهال والصلوات إلى الآلهة العظمى، ثم تعود من عندها بالقبول والبركات، وهذا النوع من الجن يصاحب الإنسان أينما ذهب، في الدروب والأسواق، بل وفي الحروب أيضًا، وهناك أيضًا الجن الأشرار، والذين انبعثوا من تحت الأرض ليحملوا الأمراض والمصائب، وهم يحرضون الناس على الجرائم والقتل والسرقات.

والجن الأشرار لا يحترمون الآلهة نفسها، ويفضلون العيش في الأماكن المهجورة، وفوق شواهق الجبال، وفي الجحور التي تحت الأرض، وهم إذا ظهروا للإنسان ففي أشكال مُنَفِّرَة ومرعبة، ولا يستطيع أحد منع أذاهم وصرفهم إلا بتراتيل خاصة علمها للناس الإله (آيا) الذي لا تخلو من ذكره تعويذة بل يرد اسمه فيها عدة مرات.

وبالطبع فقد كان لسيطرة فكرة الخير والشر تأثير واضح على مجرى الحياة في بابل؛ إذ أعطت للكهنة سلطات مطلقة لقيادة الشعب والتأثير عليه تمامًا، مثلما كان الوضع في حضارة مصر الفرعونية، وكان الاعتقاد السائد أن الخير والشر يحيطان بالناس من كل جانب، والجن الصالح وأعدائهم من الشياطين جميعهم يصاحبون البشر أينما ذهبوا؛ لهذا رأيناهم عندما يذهبون للقتال يحملون معهم التعاويذ الخاصة التي تبعد الجان والمخلوقات الشريرة، وتشجع الجن الطيب على مساعدتهم وتستمطر النصر من آلهة الخير.

وقد برع كهنة بابل في أمور السحر والتعاويذ بشكلٍ لم يصل إليه أي شعبٍ قديم كانت له حضارة معروفة؛ والحق أنهم أول من وضع التعاويذ، إما لاستحضار الأرواح الطيبة أو لاستحضار الأخرى الشريرة، أو لصرف هذه الأخيرة تبعًا لهوى من شاء من الكهنة أو الحكام والملوك.

وكان الكهنة في بابل على دراية كاملة ومهارة عجيبة في أمور التنجيم، وهم أول من استعمل علوم الفلك ومسارات الكواكب في التنجيم، ثم انتشرت عنهم في سائر بقاع الأرض، كما برع البابليون في الحساب والتقويم ومواعيد الزرع والحصاد.

ويذكر لنا القرآن الكريم أن البابليين تعلموا السحر على أيدي ملكين هبطا من السماء وهما: هاروت وماروت، ومازالت قصتهما موضع جدل كبير بين العلماء والمفسرين؛ فمن قائلٍ أنهما ملكان نالهما غضب الله، ومن قائلٍ أنهما عبدان مؤمنان كشف الله لهما الحجاب ومكنهما من معرفة بعض الغيوب، وهناك رأي ذهب إليه البعض وهو أنهما أرادا إظهار عبث الشياطين ومكرهم وما قد يؤدي إليه من الفساد في الأرض؛ ولهذا علما الناس السحر حتى يعرفوا الشر لا للشر ولكن لتَوَقِّيه، ومن لا يعرف الشر يقع فيه، والناس بالطبع بدلًا من أن يعرفوا السحر ليحموا أنفسهم، استخدموه ليدمروا بعضهم، وشرب الملكان أكبر مقلب في التاريخ!.

والسحر البابلي خطيرٌ جدًا ومرعب، حتى أن عامة السحرة في العراق وخارجها كانوا يستغلون أسماء الآلهة والشياطين البابلية في أعمالهم، ولهم تعزيمات خاصة يقولونها للشيطان المراد تحضيره وتسخيره، ذلك التسخير الذي يكون غالبًا في الشر، وحتى  الآن يعرف السحرة في البلاد الأوروبية أسماء مثل: بَلْزَبُول، عشتروت، بليال، وغيرها.. وهي كلها أسماء بابلية قديمة.

وحتى الأسماء السريانية التي تطلق على الشياطين وبعض الملائكة لها أصل في لغة بابل القديمة، ولا زالت تستعمل حتى الآن في ممارسة السحر وخاصةً السحر الأسود، ومن المعروف براعة اليهود في السحر، وأن اليهود تم نفيهم إلى بابل على يد نبوخذ نصر، وفي بابل عاشوا عدة قرون، وفيها كتبوا (التلمود البابلي) و(القبَّالا) وهو مرجع صوفي وفرقة دينية معروفة عند اليهود، والدراس للتلمود بدقة لن يصعب عليه الكشف عن التأثير البابلي الواضح والكبير فيه وفي كثير من معتقدات اليهود حتى اليوم.

وفي الختام أحب أن أوضح أن السحر حقيقة واقعة ولا يدور كله على التخييل أو الخداع البصري، وللأسف الشديد فإن هذا العمل بدأ منذ القِدَم وسيظل حتى النهاية، وترشدنا بعض المراجع أن بدايته كانت في زمان إدريس النبي وتحديدًا سنة 622 من خلق آدم والذي كان وقتها على قيد الحياة! بمعنى أوضح نقول أن السحر معروف منذ وجود الإنسان على الأرض، وهناك أمور لا يمكن تفسيرها علميًا ولا نستطيع فهمها إلا إذا اعترفنا بالسحر، ومنها مثلاً لعنة الفراعنة؛ فقد كانوا يضعون الطلاسم والتعاويذ في مقابرهم، وعندما يأتي اللص أو المكتشف الأثري يكون مصيره النكبات المتلاحقة ثم الوفاة الغامضة، ثم إن القرآن اعترف بالسحر وقال عز وجل: " قل أعوذ برب الفلق.. من شر ما خلق.. ومن شر غاسقٍ إذا وقب.. ومن شر النَّفَّاثات في العُقَد.. ومن شر حاسدٍ إذا حسد" فالنفاثات في العقد هُنَّ الساحرات التي تعقد الخيوط وتنفث فيها، وقد رأيت هذا بعيني، وليس من التقدم أن ننفي أمرًا واقعًا؛ فالسحر موجود، وعلاجه الوحيد في التحصن بالذكر والقرآن.

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم