أقلام ثقافية

سحر الكتابة الحرة.. أن تكون مقروءاً ومفهوماً من الجميع

ماهر عبد المحسنأذكر منذ عدة سنوات أنى تقدمت ببحث إلى إحدى المسابقات الثقافية، وكان الموضوع حول كتابات عميد الأدب العربي طه حسين. وقد اخترت وقتها مجموعته القصصية "المعذبون في الأرض"، وقدمت قراءة نقدية أزعم أنها كانت جديدة، اعتمدت فيها على فكرة "كسر الإيهام" أو ما يُعرف ب "سقوط الحائط الرابع" في المسرح الملحمي لدى بريخت، وكانت استشهاداتى كلها من داخل النص نفسه، التي جاءت مؤكدة لفرضيتي، ومعبّرة عن فكرتي حول أسلوب طه حسين السردي، السابق لعصره، و المعاصر للنظريات الأدبية والنقدية العالمية، في الآن نفسه، في ذلك الوقت.

والمفارقة أن جاءت نتيجة المسابقة متعارضة وإشكالية، ما أدى إلى إلغاء القيمة المادية للجائزة، والاكتفاء بتقديم شهادات تقدير للفائزين، وذلك لأن أحد المحكّمين، وكان دكتور عصمت نصار، قد منحني المركز الثالث والأخير ضمن الفائزين، بينما منحني المحكّم الثاني، وكان ناقداً أدبياً من خارج المؤسسة الأكاديمية، المركز الأول.

و أذكر أنه بعد انتهاء المسابقة اتصلت بدكتور عصمت، وهو من الأساتذة الكبار الذين تربطني بهم علاقات طيبة، وسألته عن سبب منحه لي المركز الأخير، أجابني بأنه لم يفعل ذلك لمستوى العمل وقيمته فى ذاته، وإنما لأنه لا تتوافر فيه المعايير العلمية المعتمدة في تحكيم الأبحاث العلمية الأكاديمية، وأن منظمي المسابقة أخبروه بأن التحكيم ينبغي أن يكون وفقاً للمعايير الأكاديمية لا معايير الكتابة الحرة. وعندما تواصلت مع الناقد، غير الأكاديمي، الكبير، وسألته عن سبب منحه لي المركز الأول، أجابني بأنه "أحب البحث". ومنذ ذلك الوقت، قررت التخلي، ولو نسبياً، عن الكتابة الأكاديمية، التي مارستها لأكثر من خمس وعشرين عاماً ماضية، والتركيز على الكتابة الحرة، فليس هناك، في رأيي، من جائزة يمكن أن يحصل عليها الكاتب أغلى من حب القارئ لما يكتب. ولعل في ذلك يكمن سر نجاح كتّاب مثل زكى نجيب محمود، مصطفى محمود، أنيس منصور، أحمد خالد توفيق.

وأهم ما يميز الكتابة الحرة أنها كتابة منطلقة، تمنح كاتبها مساحة كبيرة من الحرية، بحيث يتحرك كيفما يشاء دون الالتزام بقواعد أو معايير معدّة سلفاً سوى الصدق والرغبة في تقديم الجديد. وهي، بهذا المعنى، تذكّرني بكل ما يتصف بالحرية من قبيل: المصارعة الحرة والأعمال الحرة والشعر الحر، ويمكنك أن تشعر بالفارق إذا ما أجريت مقارنة بسيطة بين هذه المجالات ونظيرتها. فمما لاشك فيه أننا ننجذب أكثر عند مشاهدة مباريات المصارعة الحرة  عنه عند مشاهدة المصارعة الرومانية، فالرومانية تأتى فى سياق مسابقات رسمية لها قواعد وأصول تقلل كثيراً من عناصر الجذب والمتعة والإثارة التي تحققها المصارعة الحرة. غير أن ما يؤخذ على هذه الأخيرة أنها تفتقر إلى الصدق، لأنها تعتمد على نوع من التواطؤ أو الاتفاق بين المنظّمين لهذه المباريات بحيث تأتى المباراة أشبه بالعرض المسرحي أو عروض السيرك، وفى كل الأحوال يكون عنصر التمثيل أو الإيهام بالواقع هو السمة المميزة لهذه المباريات المثيرة، بالرغم من توافر عنصر التجديد فيها. وهذا خلافاً للمصارعة الرومانية التي تتميز بالصدق دون التجديد.

وربما كانت الأعمال الحرة هي الأكثر قرباً من نموذج الكتابة الحرة. فإذا كانت ظروف العمل بالوظيفة العامة، خاصة تدنّي العائد المادي والأدبي، تدفع العامل إلى التكاسل، والتظاهر بالعمل وبذل الجهد على غير الحقيقة، ما يجعله عازفاً عن الرغبة في الإبداع وتقديم الجديد، فإن ظروف العمل الحر، خاصة ارتفاع العائد المادي والأدبي، تدفع العامل إلى الصدق في الأداء، والرغبة فى التجديد، خاصة أن الأعمال الحرة تنطوي على قدر كبير من المغامرة التي تجلب المخاطرة، وكلها أمور لا تخلو من إثارة وتشويق.

غير أن الأعمال الحرة تختلف عن الكتابة في كونها لا تأخذ شكل العرض، ولا تستهدف  جمهوراً، بالرغم من أن رجل الأعمال الناجح يكون، فى الغالب، محطاً لأنظار الجميع، و نموذجاً تسعى الغالبية، الراغبة فى النجاح وتحقيق الثراء المادي، إلى السير على خطاه. وفى هذا السياق، يأتي الشعر الحر ليعالج هذا القصور، فالشعر هو، في المقام الأول، لون من الكتابة، والشعر الحر تحديداً، هو لون من الكتابة المتمردة ، الخارجة على تقاليد الشعر العمودي الذى يلتزم الوزن والقافية الواحدة. غير أن أهم ما يميز هذا اللون من الكتابة إنما هو شعرية الكتابة، أى الإيقاع الخاص للغة الشعر، سواء أكان إيقاعاً خارجياً، مثل الشعر التقليدي، أو داخلياً، مثل قصيدة النثر.

والحقيقة أن هذه الأخيرة، هي الأقدر على تفسير السحر الخاص الذى تتمتع به الكتابة الحرة عموماً. فقصيدة النثر هي، في التحليل الأخير، كتابة نثرية، غير أنها تحمل روح الشعر. وفي كل الأحوال لا يمكننا أن نخلع الصفة الشعرية علي كل كتابة نثرية تتشبه بالشعر، لكننا فقط نفسر جاذبية الكتابة الحرة بكونها تستلهم روح الشعر، من خلال إيقاع خاص يضمن لها وحدتها، وينجح في اختراق قلب وعقل المتلقي. وفى هذا المعنى، أذكر أن دكتور سعيد توفيق كتب في مقدمة ترجمته لكتاب "تجلى الجميل" للفيلسوف الألماني المعاصر هانز جورج جادامر، أن كتابات جادامر لا تحمي نفسها من النقد. وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأن مقالات جادامر فى هذا الكتاب كان لها إيقاع خاص، إيقاع يتسم بالنزعة الإنسانية التي تشعرك أنه يخاطب القارئ العام، لا الباحث المتخصص فحسب. هذا بالرغم من أنه كان منظّراً أكاديمياً من الطراز الأول.

وإذا أردنا أن نبحث عن مصدر الإيقاع فى الكتابة الحرة، فسنجد أنه ينبع من عمق الفكرة وبساطة التناول، فما يميزها في هذا الصدد، إنما هو اعتمادها على نفسها، وخبرة كاتبها الذاتية، الثقافية والحياتية، فلا تحتشد بالمراجع، ولا تتكئ كثيراً على أقوال الآخرين، إلا إذا جاءت هذه المراجع وتلك الأقوال كجزء من الخبرة الذاتية والمخزون المعرفي للكاتب. لذلك تعتمد هذه الكتابة على الذاكرة أكثر مما تعتمد على المراجع المكتوبة، وهو ما يحقق لها إيقاعاً سريعاً ومتدفقاً، وما يضمن لها أن تصل إلى عقل ووجدان المتلقي بسهولة ويسر. إضافةً إلى أنها تبرز شخصية الكاتب، وتمكّن القارئ من التعرف على أفكاره وقناعاته الحقيقية.

وعلى مستوى اللغة والأسلوب تبتعد الكتابة الحرة عن اللغة الاصطلاحية، قدر الإمكان، ولا تتورع عن أن تستخدم كلمات تقليدية أو مستهلكة مادامت هذه الكلمات هي الأكثر تعبيراً عن الفكرة، وفى ذات الوقت ليس هناك ما يمنع من استخدام كلمات وتعبيرات جديدة للسبب نفسه. فالمعيار هو القدرة على توصيل الفكرة من أقصر الطرق، الأمر الذى يجعل للوضوح الأولوية على الغموض، وللبساطة الأولوية على التعقيد.

 كما أن الكتابة الحرة، لا تعرف التمييز بين أسلوب علمي وآخر أدبي، وإنما تعتمد منطقة أسلوبية تقع بين الواقع والخيال، لأنها تستهدف الكشف عما هو إنساني فى كل الموضوعات، وتعمل على تحرير الكاتب والقارئ على السواء من وهم الموضوعية، و أساطير المعارف النهائية والحقائق المطلقة. فالكتابة الحرة تقدم اقتراحات، و زوايا جديدة للنظر، ولأنها حرة فربما تفتقد إلى شيء من الدقة العلمية، لكنها، بفضل الخيال، تمتلك روح المغامرة، ما يجعلها قادرة على كسر المألوف، و إحداث الدهشة التي تحرك العلم والفلسفة الأدب.

وفى كل الأحوال ينبغي أن ندرك أن ليس ثمة كتابة أفضل وكتابة أسوأ، في سياق العمل الجاد، لكن هناك ميدان لكل كتابة، وكل ميدان له أصوله وقواعده المتعارف عليها لدى المنتمين إلى هذا الميدان. وبهذا المعنى تظل للكتابة الأكاديمية أهميتها وميدانها الذى تعمل فيه، وكذلك تظل للكتابة الحرة أهميتها وميدانها الذى تعمل فيه، غير أن الكتابة الحرة تتميز عن الكتابة الأكاديمية فى كونها يمكن أن تكون جسراً تعبر من خلاله الأفكار الأكاديمية إلى القارئ غير المتخصص، ما يحقق لها الذيوع والانتشار، ولعل في ذلك يكمن السبب في أن بعض الأكاديميين يعمد إلى إعادة طرح أفكاره الأكاديمية فى الصحف والمجلات غير المتخصصة، بأسلوب الكتابة الحرة، حتى يضمن لها درجة أعلى من المقروئية. لكن يظل التحدى الأكبر في قدرة الأكاديمي على نقل الإيقاع الحر الذى تتمتع به الكتابة الحرة إلى الكتابة الأكاديمية نفسها.

 

د. ماهر عبد المحسن

 

 

في المثقف اليوم