أقلام ثقافية

عندما قال فرجيل: احرقوا الإنياذة!

يسري عبد الغنيفرجيل شاعر روماني شهير، نظم ذات مرة قصيدة موجهة إلى صديقه إسينيوس بوليو، تنبأ فيها بمولد طفل سيكون له شأن عظيم في إدخال عهد جديد من السلام والازدهار في ربوع العالم، ولما كانت تلك القصيدة قد نظمت قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) بحوالي أربعين سنة، فإن المسيحيين الأوائل اعتبروا فرجيل رجلاً متنبئًا، لأنه تمكن من التنبؤ بميلاد السيد المسيح .

وقد زاد من هذه الشهرة أن والدة فرجيل وكانت تدعى ماجيا، وهي كلمة مشتقة من اللاتينية ماجوس، ومعناها الساحر أو الساحرة، أما اليوم فلا يظن أحد أن فرجيل كان ساحرًا، إلا أن شهرته كواحد من أعظم شعراء أللاتينية قد زادت ونمت .

فرجيل الذي اعتبره الشاعر الايطالي / دانتي صاحب (الكوميديا الإلهية)، آخر عظماء الشعر الوثنيين، وقد اختاره دليلاً في كتابه (الجحيم والمطهر)، عندما قام بالرحلة التي تخيلها إلى العالم الآخر، وبالطبع لم يكن من الممكن اصطحاب فرجيل إلى الجنة لأنه لم يعمد أو لم يدخل الديانة المسيحية!!!.

ولد بابليوس فرجيليوس مارو، يوم 15 من أكتوبر عام 70 ق . م، وهي قرية صغيرة قريبة من مانتوا التي تقع في وادي نهر ألبو في شمال إيطاليا، كان والده مزارعًا بسيطًا، وقد عاش فرجيل في الريف الإيطالي حتى الثانية عشرة من عمره، فنشأ شديد الحب للريف، وقد ظهر أثر ذلك جليًا فيما بعد في الكثير من أشعاره التي تغنى فيها بجمال المناظر الريفية .

وبدأ فرجيل دراسته في كريمونا، وعندما بلغ سن السادسة عشرة أرسل إلى ميلانو، فمكث بها عامًا ثم انتقل إلى روما، حيث التحق بإحدى مدارس أدب اللغة، وبجوار ذلك درس الطب والفلك، كما أنه حاول أن يعمل في مهنة المحاماة، ولكن من الواضح أن هذه المهنة لم تكن تناسب طبيعته التي كانت تتميز بالخجل وغرابة الأطوار، والواقع أنه لم يظهر في المحكمة سوى مرة واحدة، ويبدو أنه خسر القضية التي كان يترافع فيها، فكان ذلك سببًا في أنه غير خططه وعاد إلى مسقط رأسه شاعرًا بالخيبة والمرارة .

لم تكن حالة شاعرنا الصحية تتحمل الإرهاق، ولهذا نجد أنه لم يشترك في الحياة العامة، سواء كجندي أو كسياسي، ومع ذلك فإن الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أغسطس و بروتس، على أثر مقتل يوليوس قيصر، كانت سببًا في إلحاق الأذى به، ذلك أن أغسطس أراد أن يكافئ  جنوده المخلصين، فأمر بمصادرة بعض الأراضي في منطقتي كريمونا و مانتوا ووزعها عليهم، وكانت مزرعة فرجيل من بينها، فصودرت ظلمًا وعدوانًا وطرد هو وأسرته منها، وعلى ذلك اتجه مرة ثانية إلى روما، ولكنه في هذه المرة كان أسعد حظًا من سابقتها .

كانت العاصمة روما تمر بفترة سلام وازدهار، وكان الإمبراطور أغسطس، تدليلاً منه على إحلال السلام، قد أمر بإغلاق أبواب معبد جانوس، التي لم تكن تفتح إلا في حالة الحرب، كما أن النمو التجاري قد أضفى على المدينة المزيد من الثراء، فازدهرت الآداب والعلوم والفنون، وأقيمت أقواس النصر، وشقت القنوات، وشيدت المسارح التي لا يزال الكثير منها باقيًا إلى يومنا هذا .

وكان مايكناس، أحد نبلاء الرومان في ذلك الوقت، مشهورًا برعاية الشعراء والفنانين، ومن بينهم هوراس الشاعر الروماني الأشهر، وقد أصبح مايكناس وأغسطس راعيين لفرجيل، ومنذ ذلك الوقت أخذ فرجيل يقسم وقته بين روما ونابولي، وأصبح شاعر العهد الجديد الذي كان الإمبراطور / أغسطس قد شرع في إقامته .

لقد كان فرجيل يستلهم أشعاره بصفة خاصة من الريف، وكانت باكورة أعماله ديوانه عن الزراعة، ومجموعة أشعاره الرعوية، وفيها يصف الحياة الآمنة في الريف، كما يصف مختلف أنواع الزراعة، وقد نظم تلك القصائد بناءًا على اقتراح أغسطس، الذي كان يرغب في تنمية حب الريف في قلوب الرومان، الذين جعلهم الثراء يحتقرون أعمال الفلاحة الشاقة، وقد استغرق فرجيل في نظم هذه الأشعار وتنقيحها قرابة سبع سنوات، فقد كان يقرض الشعر بتؤدة، فيكتب أبيات في الصباح، ويقضي باقي اليوم في صقلها وتصحيحها وتجويدها .

وقد أمضى فرجيل السنوات العشرة الأخيرة من حياته في تأليف أشهر أعماله وهي (الإنياذة)، التي حيى فيها تاريخ الرومان وعظمتهم، من خلال أسطورة آينياس القائد الطروادي، الذي يقال أنه كان مؤسس الشعب الروماني أو الجد الأكبر للرومان، وقد أصبحت الإنياذة مصدر جميع المعارف للشعب الروماني، بل يعتبرها البعض من كتب التنبؤات، وقد كان الرومان يعتقدون أن الصفحة التي يفتح عندها الكتاب بطريقة عشوائية أو عن طريق المصادفة، تشتمل على النبأ المرتقب، والنصيحة المنشودة .

حل المرض بفرجيل، كان ذلك خلال رحلة يقوم بها للشرق، كان يأمل من خلالها أن يتم ملحمة الإنياذة، وفي أثناء رحلة العودة اشتد عليه المرض، وما أن وصل إلى برنديزي، التي كانت لا تزال ميناء إيطاليا الرئيسية لليونان، حتى شعر بدنو أجله، وكان يحمل معه مخطوطات الإنياذة التي كانت لا تزال في حاجة للمراجعة والتصحيح والصقل .

وقد آثر الشاعر فرجيل ألا تنشر إحدى مؤلفاته بالحالة التي كان يعتبرها غير كاملة، فأوصى بأن تحرق الإنياذة بعد وفاته .

كانت وفاة فرجيل في العشرين من شهر سبتمبر عام 19 ق . م بالقرب من نابولي على طريق أصبح اليوم مغمورًا بمياه البحر، وقد أمر الإمبراطور /  أغسطس بعدم تنفيذ وصية الشاعر فرجيل، والتي طالب فيها بحرق الإنياذة، وبذلك احتفظ لنا بإحدى روائع الشعر في جميع العصور .

وعلى قبر فرجيل توجد بعض أبيات من الشعر يقال أن فرجيل نفسه هو الذي كتبها، وضمنها ملخصًا لتاريخ حياته وأعماله: " لقد ولدت في مانتوا، ومت في كالابريا، والآن تحتضني نابولي "، ويقول أيضًا: " لقد قلت الشعر في الرعاة، وفي الزراعة، وفي الأبطال " .

وتحتفظ المتاحف الإيطالية بمجموعة رسومات معبرة، نجد فيها فرجيل وهو يقرأ على مايكيناس بعض الأشعار الرعوية، ونرى أيضًا الإمبراطور / أغسطس يحول بأوامره دون حرق مخطوطات الإنياذة مخالفًا بذلك وصية فرجيل .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم