أقلام ثقافية

التعريف النفسي للشعر!!

صادق السامرائيعندما كنت طالبا في كلية الطب، في المراحل المتقدمة منها كنا نتدرب في المستشفى، وبحصة التدريب في ردهة الإنعاش، وجدتني محاطا بشاشات تظهر عليها تخطيطات قلوب المرضى الراقدين فيها.

وكانت المسؤولة ممرضة أجنبية، فراحت تشرح لي معاني مخططات القلب بأسلوب أثار دهشتي، فهي تموسقها، فتبدأ بالرسم الطبيعي، ثم المضطرب بأنواعه، وكنتُ أصغي إليها بعجب، وقد حفرت أو نحتت ألحانها في ذاكرتي.

فالقلب ينبض وفقا لإيقاع، ما أن يضطرب حتى تكون الحياة في محنة!!

وفي حينها كتبت ما كنت أسميه " ألحان القلوب"!!

وبتواصل التدريب في أقسام أخرى، كتخطيط الدماغ والعضلات، وغيرها التي أخذت تطلعكَ على دنيا البشر، إزداد إهتمامي بإيقاعات الأعضاء الجسمية.

وفي قسم الطب النفسي ألهب أستاذناَ أفكاري بقدرته التناغمية مع أحاسيس ومشاعر المريض، حتى أدركتُ أن النفس ذات إيقاعاتٍ وألحان!!

وبعد التدريب والعمل في أقسام الطب الأخرى، تيقنتُ بأن الكيان البشري يكنز إيقاعا، ولكل منّا لحنه وإيقاعه الخاص به، فكتبتُ العديد من المقطوعات التي تمثل لحنَ ما فيكَ.

ومع تواصل التجربة وتراكم الخبرة، رأيتُ أن النشاطات الفسيولوجية في الكائنات الحية ذات إيقاع!!

وفجأة إنتقلت هذه المفاهيم إلى الشعر عندما كنت أعمل في قسم الباطنية، وإذا بمريض مهتم بالشعر ومن المدمنين على الخمر، راح يحدثني عن إيقاع الشعر ونغماته، وهو يترنم بما يحفظه من جميل روائعه.

حينها نهض السؤال عن أصل البحور الشعرية وأوزانها، فبحثت فيها وما وجدت التفسيرات مقنعة، ورأيت أن النابه الوحيد الذي إكتشفها ولم يخترعها هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، العالم في الموسيقى والرياضيات، وبربطه بينهما تمكن من إكتشاف ما نسميه بعلم العروض أو البحور الشعرية.

وفي حقيقة ما إكتشفه، أنه أظهر إيقاعات النفس البشرية كظاهرة تعبيرية عمّا يعتمل في الأعماق من أفكار ورؤى ومشاعر وأحاسيس، وضبطها بمعايير رياضية محكمة وتامة.

ولهذا فأن تصنيفاته للبحور تتناسب وإيقاعات النفس في حالاتها المتنوعة، فالشعر في المفهوم النفسي تعبير عن إيقاعات داخلية ذات ضوابط ومقاييس كما للقلب والدماغ والعضلات وباقي أعضاء الجسم، بل حتى الخطوات لها إيقاعها المنفرد.

ووفقا لهذا فمن الشعر ربما يمكن تقييم الحالة النفسية لكاتبه وتشخيص ما يعانيه من الإضطرابات، بل ويمكن المعالجة النفسية بالشعر!!

فالشعر إنسكاب نفسي بإيقاعات متوافقة مع ما يتلجلج في الأعماق، وبذلك هو يكشف حقيقة الذات البشرية وجوهرها الفاعل فيها.

ويمكن القول بأن الشعر محاولة رسم ما في الإنسان من طاقات وقدرات ذاتية، بمداد ما يمتلكه من مهارات تصويرية متناسقة.

والخلاصة أن الشعر تعبير إيقاعي منضبط عمّا يجيش في الأعماق من تفاعلات حسية وفكرية وتخيلية وغيرها، وهو الصورة الحقيقية للذات البشرية في مرآة الوجود الكونية.

 

د. صادق السامرائي

..............................

*هذه المقالة من وحي التجربة الذاتية والبحثية، ولكل منا ما يراه ويدركه.

 

في المثقف اليوم