أقلام ثقافية

البارودي فارسنا المهزوم وفن المختارات

يسري عبد الغنيوإذا كان للبارودي ديوان شعري كبير، يعد فيه بحق أول من حمل لواء النهضة الشعرية المعاصرة، ونفض به الغبار الذي تراكم على الشعر العربي مدى ألف سنة تقريباً، والواقع أنه كان معلم نفسه، حيث هدته فطرته إلى خير ما يحفظ، وتدل مختاراته التي طبعت بعنوان: (مختارات البارودي) على ذلك، حتى تعد مرجعاً لكل شداة الشعر في مختلف العصور، وهذه المختارات نشرها وعني بتصحيحها الأستاذ / ياقوت المرسي، وهو آخر من كتب للبارودي، وصدرت طبعتها الأولى بالقاهرة سنة 1327 هـ، عن مطبعة الجريدة بسراي البارودي، في أربعة مجلدات، مع مقدمة .

والمختارات مرتبة على سبعة أبواب هي : الأدب، والمديح، والرثاء، والصفات، والنسيب (الغزل)، والهجاء، والزهد، تقاسمها ثلاثون شاعراً، وكما ذكر في المقدمة، أنهم من فحول المولدين، وأشهر هؤلاء : بشار بن برد، وأبو نواس، والبحتري، وابن الرومي، وابن المعتز، والمتنبي، والشريف الرضي، والمعري، والأبيوري، وسبط بن التعاويذي .

وكان ابن الرومي أكثر من نظر البارودي في شعره، حيث جمع له 3732 بيتاً، يليه البحتري، وقد اختار له 3297 بيتاً، فسبط التعاويذي (أبو الفتح محمد بن عبد الله )، وقد جمع له 2789 بيتاً في مختلف الموضوعات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن بشاراً يجيء أخرهم مع أنه يستفتح به كل باب من أبواب المختارات السبعة، وقد بلغ مجموع ما اختاره له 218 بيتاً، ويتقدمه الشاعر المتمرد / ابن عنين، وهو دونه درجة .

ولعلنا نلاحظ أن البارودي لم يتأثر بشاعر عربي قديم معين، وبإجماع النقاد لا يقدم شاعر عربي على آخر، حيث أنه كان يحتكم إلى ذوقه الخاص، ومختارات البارودي بما فيها من شروح وتعريفات وتعليقات أدبية مفيدة، تمثل آخر حلقة من حلقات المجموعات الشعرية التي تربينا عليها منذ القديم وعرفت بالحماسة، مثل : حماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، وحماسة الخالدين، بالإضافة إلى مختارات المفضل الضبي (المفضليات)، ومختارات الشجري إلخ ..

ليتنا نعود إلى دراسة رواد شعرنا العربي الحديث دراسة جادة واعية، وكذلك مواصلة فن المختارات الشعرية القيمة، إذا كنا نريد لأجيالنا الصاعدة أن ترتقي بذوقها وبلغتها .

أعود لأقول لك : إن رب السيف والقلم / محمود سامي البارودي تأثر في شعره بما حفظ ووعى وتذوق من أشعار العرب الأقدمين في عز الفصحى، فترسم مذهبهم الشعري، وجاء شعره كما وصفه : " ليس فيه شيء من تعقيد الفكرة، ولا من القضايا المنطقية، والمعاني المتوغلة في العمق والآراء الفلسفية . " .

وفي رأي البارودي أن وظيفة الشعر هي " تهذيب النفوس وتدريب الأفهام، وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق "، والشعر عنده أيضًا : " ومضات تلمع في سماء الخيال "، وهذه الومضات الخيالية تألقت في شعر البارودي رائد مدرسة الإحياء والبعث العربية أو فلنقل رائد الكلاسيكية الجديدة، تألقت ولاحت في أفق إلهامه دون أن يعمد إلى صياغتها قصة محبوكة الأطراف، أو يوغل بها في خيال ممتد طويل في ملحمة من الملاحم، أو مسرحية من المسرحيات تتابع حوادثها .

لقد رأى البارودي أن الشعر الجيد يتميز بوضوح معانيه، وحُسن تأليف عبارته، وهذه كلها صفات الشعر الغنائي كما فهمها العرب، وقد التزم البارودي هذا المذهب في ديوانه، ولم يخرج عنه إلا نادرًا .

كان البارودي يتخير الألفاظ المناسبة للمعاني، فيرق ويلطف في مقام الرقة واللطف، كأن يتغزل، أو يعتب، أو يصف منظرًا أو مشهدًا جميلاً، أو مجلس أنس وسمر، ويجزل شعره، ويجلجل لفظه، ويشتد أثره، حين ينشد في الحماسة والفخر، وحين يصف البحر الهائج، والريح الزفوف، والحرب الضروس

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم