أقلام ثقافية

ترتيلة موج عند حافة الإنتظار

نبيل عرابيأرى في أعالي السماء مطراً،

من غيوم الكلام القديمِ

يحاول أن يتساقط ثرثرة في صدى الصمت (1)

أتُراها دورة الأيام تكرر نفسها كل عام، تحمل إلينا ذكريات استحالت نقوشاً وزخارف على جدران القلب، منها ما يدفع قسمات الوجه الى شيء مُحبّب من الراحة الممزوجة ربما بقليل من الفرح المبطّن، ومنها ما يقطّر العبرات دون أي اكتراث لمحاولة تماسك تحتاج شيئاً من الوقت للاستجابة، فيمر الحدث على أحد الوجهين، ولا تجاوزاً يُذكر للدائرة الضيقة التي ولد فيها، وبعيداً عن أي وميض اهتمام ولو لجزء من الثانية من طرف كائن حي، او طيف لكائن كان حياً في يوم من الأيام...

وأرجع نحو الصباح الذي لا أزال أراه ينقل خطوته،

ويجرّ جنازته،

ويحاول ألاّ يشابه لونَ المساءْ  (2)

وحين لا تُفلح محاولات التفلّت من هذه المواقف، التي تشبه أحياناً حالاً من الشرود والتّيه في بوصلة الفكر، وقد تُقارب حد الانسلاخ عن الواقع، حتى ليشعر المرء بأن قدميه أصبحتا معلّقتين في الهواء، وأن جناحين صغيرين أخذا ينبتان له، لكن هيهات هيهات ان تُكتب لهذا العيش الرغيد الحياة، وأن يتجاوز الحلم الصغير مرحلة ما بعد صرخة الولادة...!. 

ما الذي يجعل القلب مزدحماً - هكذا - بنشيد الفناءْ؟

ما الذي يدفع الروح نحو الفكاهةِ في موسم الموتِ

يمسح من ردهة النوم والانتظار

ترانيم أحلامنا (3)

فمع كل موطئ قدم لنا في تفاصيل تقويم أيامنا، تتوالى سفن الطموح وخيبات الأمل، سفن الخرائط المهترئة الفاقدة لأكثر معالمها، وسفن المتاهات الموجعة في دورانها، حتى ليَعجب المرء من نفسه: كيف استطاع رصيف عمره ان يتعامل ويتفاعل ويتواصل مع كل ما كانت تلك السفن تفرغه من حمولاتها؟! ولا يكاد يصل الى نهاية تساؤله واستغرابه حتى تلوح في الأفق تباشير سفن غامضة واثقة من وجهتها، ومن الحفاوة وحسن الاستقبال، فلا تصدح الحنجرة بأغنية كلماتها فُتات ربيع ذابل، وتكتفي بترتيلة دمع عند حافة موج الانتظار..!..

ما الذي سوف أفعل هذا المساء؟

غير أن آخذ القلب من قفص الصدر

أقذفه بفتور اليدين قمراً في أعالي السماء (4)

وتبلغ الحيرة ذروتها، مع اقتراب حلول شمس الظهيرة في دورتها الفلكية، فلا الفجر عاد الى دمي، ولا الضحى أرسى قواعد الوقوف في وجه الطوفان.. ولم يبق سوى الاتكاء على أطراف المعجزة، فعساها تنقذ ما يمكن إنقاذه، او ربما.. ربما تقلب الأمور رأساً على عقب، وبين هذا وذاك.. يبدأ الدوران حول النفس مرحلته الأولى.. ببطء شديد، لتشتد سرعته فيما بعد رويداً رويداً، بأسلوب تتوازن فيه حركة الأقدام مع ارتفاع الأيدي.. ضمن دائرة أثيرية قد تُعرف قاعدتها ولكن يخفى منتهاها..!...

وماذا سأفعلْ

حين أرى قمر القلب سقط،

والروح ترفع كلتا اليدين

لتأخذه،

قبل ان يطأ الأرض

محتقناً بالبكاء؟ (5)

***

نبيل عرابي

.......................

هوامش:

1 – 5 راسم المدهون، ديوان "حيث الظهيرة في برجها"، دار المدى، دمشق، 2002.

 

 

في المثقف اليوم