أقلام ثقافية

سُرَّ وساءَ مَن رأى!!

صادق السامرائيكيف تحولت (سُرَّ مَنْ رأى) إلى (ساءَ مَنْ رأى)، سؤال يتجنب الباحثون الخوض فيه، ويعتمدون على أضاليل مدونه وحكايات لا يقبلها العقل، ولا تتفق مع آليات السلوك البشري، ولهذا فأن الدراسات والبحوث في هذا الشأن تكاد تكون نادرة.

كما لا توجد كتب تأريخ لسامراء مثلما توجد كتب تؤرخ لبغداد في حينها.

إذا صح القول أن (سر من رأى) جاءت كتعبير مستوحى من (تسر الناظرين) التي وردت في القرآن، فأن المعتصم قد أكد على جمالية العمران والتخطيط وشارك هو بنفسه في رسمها الهندسي، وإستحضر مشاهير البنائين والمصممين والفنيين وذوي الصنع المتميزة من أنحاء الدولة العباسية.

والهدف الأساسي أن يضاهي بجمالها مدن الأندلس التي أخذت شهرتها تذيع بين الناس، وأن العمران فيها قد بلغ ذروته الجمالية، وكان يريد إظهار قدرة الدولة وتفوقها على قدرات دولة بني أمية في الأندلس، التي إنطلق بها عبد الرحمن الداخل (113 - 172) هجرية، الذي نجا بأعجوبة من المنصور، ومدة حكمه (138 - 172) هجرية، وقد إهتم بالعمارة، ولايزال الجامع الكبير الذي بدأ بإنشائه قائما، وهو أقدم من الجامع الكبير في سامراء بعدة عقود.

فالإمعان بالجمالية كان تنافسا حضاريا، وإثباتا للقوة والإقتدار، وأن دولة بني العباس أعظم من دولة بني أمية في الأندلس، ومما يذكر أن المعتصم كان عازما على غزو الأندلس ويعد العدة لذلك قبل مرضه ووفاته.

وهذه اللوحة العمرانية الجميلة التي إنطلق بها المعتصم، كادت أن تذوي بعد وفاته لولا الواثق الذي قرر أن يجعلها مدينة معاصرة، وليست بناءً عمرانيا عسكريا جميلا باهيا زاهيا وحسب، ولهذا فالفضل يعود للواثق الذي قرر الإستقرار فيها وتطويرها، فتواصلت مسيرة عمرانها، وبلغت ذروتها في زمن المتوكل (232 - 247) هجرية، الذي أمعن بالبناء وتأكيد هيبة وجمالية المدينة، وحوّلها إلى أجمل مدن الدنيا في عصرها.

وبعد مقتل المتوكل (247) هجرية، بدأت (سر من رأى) مسيرة الإنحدار إلى (ساء من رأى)،، فلم يتحقق فيها بناء مهم بعد مقتله، فهي تستحق تسمية (سر من رأى) في الفترة (222 – 247) هجرية، أي لمدة ربع قرن وحسب، تلك الفترة التي عاصرت المعتصم والواثق والمتوكل.

فبعدها دخلت المدينة في مرحلة الفوضى والخراب، فكانت الصراعات تتسبب بدمار القصور ونهبها والفتك بأهلها، ما بين الأتراك أنفسهم والخلفاء الدمى كذلك.

وحتى جامعها الكبير تعرض للإهمال وكذلك جامع أبي دلف، ولا يوجد ما يشير إلى متى توقفت الصلاة فيهما، لكن من المرجح أنها أخذت تتضاءل بعد مقتل المتوكل، وما عادت هناك إدامة ورعاية لهما، فالناس منشغلة بالصراعات والقلاقل وخلع هذا الخليفة وقتل ذاك، حتى فقد ما يشير إلى هيبة الدولة قيمته ومعناه.

أي أن الخراب بدأ يدب في الجامعين في ذلك الوقت، مع أن الجامع الكبير كان من أكبر وأجمل جوامع الدنيا في عصره.

وكلما يُخلع خليفة ويُقتل يُخرب قصره ويُنهب، وهكذا تم تدمير قصور المنوكل، والمنتصر بالله، والمستعين بالله، والمعتز، والمهتدي بالله، والمعتمد على الله، وقصور القادة الأتراك بعد قتلهم.

وإستمر الخراب المتواكب طيلة فترة الفوضى التي عمَّت المدينة بعد مقتل المتزكل وإلى نهاية حكم المهتدي بالله، وقد تواصلت بدرجات متفاوتة حتى إنتقال العاصمة إلى بغداد، فهُجِرَت المدينة، وصارت مشاعة لمن هب ودبَّ من اللصوص والرعاع، الذين لا يعرفون قيمة ما ينهبونه مما تبقى من قصورها ومعالمها.

وما أن رحل الأتراك عنها، وإنتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد، حتى تحولت إلى هشيم، بفعل مَن كانوا فيها، وبعد ذلك تعرضت للشغب العاصف ولهجمات متوحشة من قبل الناس أجمعين وبلا إستثناء، كما يحصل لأي مدينة بعد سقوطها.

فلا يمكن تبرأة الأتراك أنفسهم، والأقوام التي كانت في المدينة وما حولها من الإسهام بتخريبها ونهبها، ومحق معالمها، وحتى جوامعها المتميزة بطرازها العمراني وجمالها صارت هدفا للنهب والتدمير.

فهل يوجد تفسير آخر لتحويل جامع الملوية إلى أنقاض بعد إنتقال العاصمة إلى بغداد، وجوامع الأندلس التي بنيت قبله لا تزال قائمة وبعضها مبنية بالآجر (الطابوق) والجص أيضا؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم