أقلام ثقافية

العزيز أبو شيار: تيمات العشق والشوق والحلم في ديوان ومضات

عبد العزيز ابوشيارللشاعر مصطفى ناجي


أهنئ صديقي الشاعر مصطفى نجي وردي على صدور باكورته الشعرية التي وسمها بعنوان : ومضات

والومضة الشعرية عبارة عن طلقات سريعة من مسدس الإبداع، فهل هي اختزال لقصيدة طويلة؟ أم هي مجرد عتبة لنص لم يتبلور بعد في ذاكرة الشاعر فاكتفى بسطور تترجم عزوفه عن الإسهاب والإطناب والإطالة ؟

أم تراها كتابة سجينة في عوالم ضيقة، يختارها المبدع عندما يمل الاستفاضة في نشر النص على مدى لغوي شاسع؟

الومضة الشعريّة لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ. و هي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شکل من أشکال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، معبرة عن هموم الشاعر و آلامه، مناسبة في شکلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحکم حياة العصر الحاضر. راجت الومضة في السبعينات من القرن العشرين و باتت تستقلّ بنفسها حتّی أصبحت شکلاً شعريّاً خاصّاً.و من أهم العوامل التي لعبت دوراً هاماً في نشأتها هي التحول الفکريّ و الفنيّ و متطلبات الحياة الجديدة و المؤثرات الأجنبية. کان للشاعر الفلسطيني عز الدين لمناصرة قصب السبق في تأسيس هذا النمط الشعريّ و من روّادها بعده، أحمد مطر، مظفر النواب، وتتسم الومضة بالسمات العامّة للقصيدة الحديثة، منها: التفرد و الخصوصية، الترکيب، الوحدة العضوية، و الإيحاء و عدم المباشرة و تنفرد بالاقتصاد في الايقاع و الصورة و اللغة و الفکرة والومضة الشعرية و إن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأوروبي ولکن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات و امتزجت فيها الخصائص التراثية و العالمية.

لن نخوض غمار التعريف بالومضة ، والتساؤلات العالقة التي تتشابك خيوطها كلما تم تناولها، بل سنقف عند شاعر عرف كيف يرتدي فصول الذات وهو يصغي لقلق الوجود بارتباطه بجمال الحرف، حيث كسر دائرة القصيدة من خلال ومضات شعرية تتوخى مواطن الجمال، هو روح شعرية شاعرية  كشفت عن بوحها بعد سنين من الكتمان  روح تحلم  بالسعادة  بوطن يسوده الوصل بالأحباب يشكو الرحيل والبعد  ومصطفى نجي يجلس على شرفة الشعر يشكو الضياع ضياع إنسانية الإنسان في عالم متوحش لا يؤمن إلا بالقوة والمادة يقول في قصيدة : ضاعت اوراق اعتمادي :

"ضاعت مني ولم أدر كيف ضاعت سألت الضياع عن الضياع كيف أضع شكواي تبسم قهقهة ثم ضاع تساءلت : عجبا كيف أضع شكايتي ونزيف بداخلي يحاصرني يوجع ألمي يجفف حنجرتي فأضيع بين الضياع"

كما أن تيمة الضياع تتكرر عنده في قصيدة حينما يأتي المساء يقول :

حينما يعبر الصمت خيمتنا وينبح الكلاب حول ثروتنا ننام ونستفيق ونصفق للخطاطيف ونتزلف تزلف العاشقين وقت الخريف تنهد خيمتنا ونضيع

والقصيدة الإنسانية عند شاعرنا مصطفى نجي والتي تنثر عطر حرفها هنا وهناك، 

 قصائد كفها نهر شعري يتدفق بتوهج غريب يستوطن أرض الشوق والحنين, وأنت تقرأ ومضاته المركزة، تخالك تتنزه وسط حديقة غناء  تمشي وسطها  مستمتعا بظلالها الوارفة ظلال الرقة وفيض العاطفة وحين يشكو الرحيل والمعاناة من ألم الفراق فهو يستحضر وقت .المساء ذلك الوقت الذي يعود الروح إلى سكونها وحنينها ويشتد شوقها كما اشتد شوق محمد الحياني في راحلة وشوق  فيروز بل جبران خليل جبران في قصيدة سكن الليل يقول الشاعر مصطفى نجي :

"سكن الليل وامتد جرحي أرقا وتراقص في عيوني السفر فلا ترحل ياحبيبي هذا المساء وتتركني والليل أناجي السماء ففاقك عذاب ..."

فبين الكتابة وبين الشاعر الرائع حرف هو بمثابة حبل سُرِّي موشوم بالألوان القزحية، فيها تختزل هويته، ومنها تتمدد إنسانيته، إنها هوية بملامح متعددة ذات مجرى يفيض بالألوان وخيوط العاطفة الجياشة .

فكيف تصير القصيدة القصيرة الومضة الحسناء  الملامح  فضاء للعذوبة حيث لا نلمس غير قلب هائم بسمات بالجمال هامس بزهور الشوق  رغم رنات الحزن التي تتصاعد أحيانا من ثنايا قصائده موسيقاها عبر جداره الشعري؟

لم يجد الشاعر ليعبر عن ذاته سوى بالشعر , فهو تنفيس , وهو عملية تطهير ذاتي تعيد العواطف إلى نصابها وبفضله يتخلص الانسان من طابو المكان والزمان وتستسلم العقول والقلوب وتتلاقى في حب وسلام وبهذا يستعيد شاعرنا توازنه العاطفي ويتخلص من الإحتقان الداخلي الذي ينبض في الروح وبالشعر وحده تحاذي الإنكسار والحيلولة دون الإنهيار فهذه الأشواق  وهذا الحب النابض في شعره ويتحايل على القواعد , وشاعرنا يصرخ صرخته الصامتة , فالشعر ملهمه الأول وجسره بإتجاه التمرد على القيود وهو يخيط الشعر في محراب القصيدة شاعر مرهف الإحساس بفكرة الحب , وتشيّد طريقها في محراب الحب كطريقة الصوفيين في العبادة , ويغني للحبيب ويتلذذ بالعذاب وهو يصرح في قصيدة دمعة حب وعشق قائلا :

العشق لب الكائنات على الدوام ولكي لا يكون العشق تاما إلا بإيلام في لغة شاعرية محلقة مصطفاه من أبجديات الروح العاشقة للجمال  وهو الذي كان بالبدء , ينشد حروفه لحن السكون ويضيىء قلوب الحزانى ويراقص النجوم يتغزل بالقمر وينثر الشعر بضوع الورود ويشدو الألحان كتغريدة الطيور ويستلقي مع الحبيب على بساط الشوق بكل الجنون , ينشد الحلم ويطرد الحزن وينسج من خيوط الشمس جداول ماء على خدود الانهار ويرسم بريشة فنان همسات الندى ولحن القلوب

وأشير إلى أن  الديوان ومضات فيه فيض من وجدانياته وفيه من العذوبة والسلاسة وعمق المعنى ما يجذب القارئ إلى التفاعل معه مبنى ومعنى.. ومعظم قصائد الديوان وجدانية وجاذبة (إبداعاً وفناً)

وإلى جانب هذا فهو لم ينس أرضه ومهد طفولته مكناس الجميلة فلم يطلب الضيافة على غرار الزجال سيدي قدور العلمي لأنه منها ويشده الحنين الدائم إليها يقول فيها :

مكناس يا جبل الماس يا موطن دفء الإحساس ويا جميلا به وفيك الناس ويا قارورة شذى كل الناس ويا جلبابا يحلو به الاستئناس ص62.....الخ

وفي اعتقادي أن الشاعر مصطفى نجي الفنان الذي يجسد الأشياء ويحولها بخيوطه إلى مجسمات طافحة بالجمال قادر على الاستمرار في الكتابة الشعرية ولئن كان يكتب ويمزق ما كان يكتبه إبان مرحلة الإعدادي فإنه اليوم سيكتب وينشر ما تخطه يمينه من درر الكلام وجميل الأشعار في مقبلات الأيام وهو نفسه يصرح في قصيدته : دعني بأنه ماض في طريق الكتابة قائلا :

دعني يا صديقي أصفف الكلم منمقا في عقد قصيدة وأمزق ما كتب في الهوى وأطوح بدساتير العشق لأجلك

وأنا على يقين بأنه سيكون موفقا في هذه المهمة غير السهلة قادرا على صياغة أجمل القصائد لأنه يمتلك ناصية اللغة العربية ممتطيا جناحي الجمال والخيال والله المستعان.

 

 تقديم الشاعر عبد العزيز أبو شيار

 

في المثقف اليوم