أقلام ثقافية

محمد المحسن: لال باباي الشاعر التونسي الذي بعثرته الفصول ولم ينهزم

محمد المحسنالإهداء: إلى كافة المبدعين الذين يمارسون فعل الإبداع.. بجسارة من لا يهاب سطوة - الرقيب

تصدير: ليس للكتابة من جدوى بلا همّ إنسانيّ كبير، ومن غير معاناة مخيلة حية للتعبير عن هذا الهم.. هي انغمار متواصل للتنقيب عن كل ما ينفع منظومة البث على أداء دورها بكفاءة عالية، تغري منظومة التلقي على القراءة المنتجة للتأويل.وبوصفها إجابة لأسئلة وجودية كبيرة، تستدعي مخيلة ذات دربة اشتغال تمنحها القدرة على إنتاج نصوص تنم عن جهد معرفي بيّن.(الكاتب)

* الإبداع قادر على خلخلة الذاكرة واكتناه صيرورة الواقع.. أما سطوة المستبد فلن تفلح في ضعضعة انثيالات الرّوح.. والحد من وميضها الشفيف (الشاعر التونسي المتألق - جلال باباي)

هناك في البرزخ القائم بين حياة يحياها وأخرى يحلم بها، يقيم المبدع/الشاعرالتونسي جلال باباي - على تخوم الردهة المضاءة المسماة كتابة، مستمتعا بجحيم هذا الإنحدار الروحاني، يبحث عن لسعة نار ولو أحرقته، يعانق الشمس فقط كي يزرع حقول الأمل والبهجة والإنعتاق..

يرفض الإنحناء أمام الليالي العاصفات مهما أوغلت في الدياجير، يحاور روحه المتوهجة، الخفاقة، المحلقة، المتمردة و الموغلة في عوالم الصفاء والإشراق والتجلي..

يرفض التدثر بعباءة المؤسسة.. يحلم بالإنفلات من عقال الوهم والخديعة ويؤسس للتوحد مع ذاته والكون..

ينخر الإغتراب و - المرض - شفيف روحه أحيانا، فيلجأ إلى أبي القاسم الشابي حين يقول:”إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسي الجميلة”..

وأنا أضيف: هذا المبدع الخلاق (جلال باباي - الإبن البار لمدينة أكودة الساحلية - سوسة - تونس) الملتحف بمخمل الليل الجريح.. هذا المبدع المتورّط بوجوده في زمن ملتهب.. إنما هو - صقر - غريب حطّ على غير سربه..

تنال منه أحيانا الحزن حد الوجع.. وتنبجس الكلمات من ضلوعه رمادية كي تحلّق في الآقاصي وتخترق سجوف الصمت والرداءة..

هوذا المبدع/ الإنسان كما أراه في مثل زمن بائس كهذا.. وها أني أسمع نشيجه في هدأة الليل وهو يبكي زمانا تحوّل فيه المبدع إلى - حلاّج عصره - محترقا بنار التجاهل واللامبالاة واللإعتراف..

وها أني أسمع بين الحين والآخر صراخه وقد بلغ به الآسى حدا لا يتاق:أنا الجمال.. أنا العمق.. وأنا الصفاء حد الإنبهار والتجلي..

ولكن هذه العزلة التي وضعته الأقدار فيها إستحالت - بقدرة قادر - فنا وبرجا أزتيكيا منتجا وخلاّقا.. وانخراطا طفوليا لنداء يأتي من بعيد موحشا و عذبا..

هو ذا المبدع الحقيقي/ الشاعرالتونسي - جلال باباي - (بدون مجاملة ولا محاباة) - كما أراه - يرقص رقصة”زوربا اليوناني”.. تلك الرقصة التي تعانق برمزيتها سماوات المجد والخلود..

ولا أظن أنّه سينزعج إذا أحسّ بأيد ملائكية ناعمة وهادئة تطرق باب عزلته بهدوء ورقة ووضوح.. لتنخرط معه في رقصها الطفولي وتتقاسم معه لذة الصمود والتحدي.. ومن ثم يلجان معا عوالم الماوراء بحثا عن نبتة الخلود، ورفضا لمتاهات الفراغ العدمي وتأسيسا لحياة موشاة ببهاء الكلمة، جسارة السؤال وجمال الحيرة ليخلدا معا خلودا جلجامشيا في أحضان التاريخ..

سألته ذات مرة سؤالا ينخر شفيف الرّوح:

هل يزدهر الإبداع في أرض يباب جرداء؟!..

فأجابني (بشاعريته المعهودة.. والعذبة.. ).

"طبعا لا.. ذلك أنّ الإبداع لا ينهض ولا يزدهر إلا في مناخ مناسب ومشجّع، وثمة الكثير من ضروب الإبداع تتقلّص وتندثر حين يكفّ المجتمع عن العناية بها ولا يبدي حاجته لها.. "

وإذن يا - جلال - يا من احترقت بلهيب الكلمة الجاسرة المخترقة سجوف الصمت والرداءة ؟!

فقال:"هناك دائما جدل خلاّق بين الإبداع في تجلياته المشرقة، وحاجة المجتمع إلى ذلك الإبداع، هو جدل الإثارة والإستجابة الذي يربط بين طرفي العملية الإبداعية:المجتمع والمبدع.. وبإنفصام عرى هذه العلاقة.. يتدحرج الإثنان صوب مهاوي الضياع، حيث لا شيء غير الندم.. وصرير الأسنان.. "

ويظل في الأخير المبدع الحقيقي.. شامخا شموخ الرواسي أمام أعتى العواصف.. "على غرار الشاعر التونسي العظيم المتألق - تونسيا، إقليميا وعربيا - جلال باباي -

قبعتي - شاعرنا الفاضل - جلال باباي - فما - هادنتا - الدهرَ.. يوما.. رغم مواجعك وآلامك.. التي الا تقلّ عنّي ألما يخرّب ضلوعي.. ويدعفني - قسر الإرادة - بإتجاه شفير الهاوية.. حيث لا شيء غير وجه الله.. ورفقة الأنبياء والرسل والصدقين..

ساحة الكلمة مازالت تحتاج إلى شدوك وصداحك

لست أنا القائل - بل مبدع مثلك تماما، وهو الأستاذ رياض خليف الكاتب التونسي القدير (صحيفة القدس العربي)

ختاما أستمسح من - القراء الكرام - التفاعل مع هذه - الشذرات الإبداعية - لقصيدة بإمضاء الشاعر التونسي جلال باباي، تترجم عمق معاناته وصبره الجليل على مواجعه، محمّلا - في ذات الآن - مسؤولية وزارة الشؤون الثقافية التونسية - الوقوف إلى جانب هذا الشاعر الفذ الذي أثّث الساحة الشعرية التونسية بقصائدعذبة، سيظلّ يرددها القادمون في موكب الآتي الجليل:

«الآن وهنا أتكئ على وتدين» و«خانتني صيف المسير يسراي» و«أنا طريح الرصيف كسير»

صارخا ضد الألم ومعبرا عن الملل:

«أعيدوني مترجلا إلى دفء منفاي

مللت دثار الفراش»

 - وهو يكتب فراش المرض والعزلة - :

«أنا ماكث فوق ربوة الفراش يتيما

يلازمني نزر من وريقات عذراء»

ليس لديّ ما أضيف.. فالدموع تلألأ في المأقي الهرمة.. وأنا ملتاع مثله تماما..

 

محمد المحسن - ناقد تونسي

 

في المثقف اليوم