أقلام ثقافية

مقاعـد

المقعد الأول: مقعد في السينما

كانت السينما كرنفالاً للمتعة والفائدة والرفاهية، وفي كثير من الأحيان كانت هدفاً للعائلة العراقية لقضاء الأوقات السعيدة الراقية، والتمتع بالمساءات المليئة بالمودة والألفة، ومع مرور الزمن، وتراجع الثقافة تحول أغلبها الى أماكن مهملة، وبعضها صار مخازن للدهون والعُدد اليدوية .

المقعد الثاني: مقعد في المسرح

في العراق، لاسيما في بغداد، كان المسرح أحد معايير الجمال، والذوق والازدهار، والرُقي بالثقافة، ومن علامات التحضر، لكن مع غياب الاستقرار، وانخفاض المستوى المعيشي، وهروب الكثير من الكتاب والمخرجين، والممثلين وتشتتهم في المنافي بحثاً عن الأمان والعمل، اغلقت المسارح، وتحول بعضها الى مكب للنفايات .

المقعد الثالث: مقعد في الجامعة

كان العلم محترماً وأصحابه في مكانة اعتبارية تتمايز بالتقدير، والجامعات رصينة في التعليم، ويفخر هذا الخريج أنه تخرج من الجامعة الفلانية، كما يشعر خريج آخر بالاعتزاز عندما تذكر جامعته أمامه، ويتنافس جميع الخريجين بجامعاتهم وذكرياتهم الجميلة . نعم كانت الجامعات رصينة، ومنظومة الأخلاق متماسكة يتحلى بها ابن الوزير والسفير، ابن العامل والفلاح .

لكن الحال الآن غير ذاك الحال، فبعد التغيير السياسي في البلاد، تغير العباد كثيراً، وانتشرت الأحزاب، وحل الخراب، بحيث صار النكرة ( س ) من الطلبة يتحكم بكثير من الأمور في الكلية والجامعة، وعلى ذلك فقد تغيرت كثيراً منظومة القيم الأخلاقية، وما زاد من تراجع العلم، وتدهور قيمته، انتشار جائحة كورونا، بحيث صار اعتماد التعليم الإلكتروني واقعاً، فقامت الحاسبة الالكترونية بواجب تصحيح الدفاتر الامتحانية، بديلاً عن الاستاذ، فنجح جميع الطلبة بتفوق وامتياز .

المقعد الرابع: مقعد في السيارة

في سيارة النقل الخاص يشعر من يجلس في الكراسي الأمامية بالامتعاض، من كثرة نكزه بأسلوب غير لائق، من قبل من يجلس خلفه لدفع الأُجرة، وفي السيارات الخاصة من المعتاد أن لا يُفاجئك من تراه يرمي المناديل الشفافة (الكلينكس)، وعلب البيبسي الفارغة من شباك السيارة في الشوارع العامة .

المقعد الخامس: مقعد في متنزه الزوراء

مع أنه كان قد زار متنزه الزوراء في شبابه، وفي اوقات مختلفة، إلا أنه لم يكن متوقعاً أن يشاهد متنزه الزوراء هذه المرة بهذا الجمال والأنوار، والمطاعم والمقاه المنتشرة في كل مكان فيه، وبعد جولة ممتعة اختار كرسياً للاستراحة، والتف حوله أولاده وأحفاده، وراح يتجول في فكره وبجانبه زوجته، حبيبته، شريكة مشواره في الحياة، وتلك الصحبة الطيبة، اللحظات الممتعة، والجميلة التي قضاياها معاً، ولا تُنسى أبداً .

المقعد السادس: مقعد في مطعم

اعتاد وعائلته ارتياد بعض المطاعم بين مدة وأخرى، ولم يختلف وعائلته عن أكثر العوائل العراقية التي تشاركهم هذا المطعم أم غيره، في أنهم يطلبون طعاماً يكفي لضعف عددهم، وفي النهاية يخرجون تاركين المائدة مليئة بالعام، وكأنهم طلبوه للتو ولم يمسه أحد .

المقعد السابع: مقعد في (كافيه)

في المساء يمتلأ هذا المقهى (الكافيه) بالشباب، وبعد لحظات يعلو صوتهم بالقهقهات ويمتلأ المكان بالدخان، ويتحول بمرور الدقائق الى مكان للفوضى والضياع .

المقعد الثامن: مقعد في الشارع

حاول أن يستمتع بوقته قليلاً، فتمشى على الرصيف المحاذي للشارع العام القريب من بيته، وعندما شعر بالتعب أراد الاستراحة قليلاً، فجلس على أقرب (مصطبة) عامة، وراح يتأمل في الناس المارة أمامه ويلاحظ تصرفاتهم، نظر أمامه على الجانب الآخر من الشارع، فوجد شاباً يجلس بخيلاء عجيب وبيده (خرطوم  أركيلته، وفجأة تعالت أصوات ثلة من الصبية المارين أمامه بكلمات نابية بذيئة، بينما يهم أخر برمي كيس صغير للنفايات في الشارع، أطرق مفكراً، ثم حمل نفسه وقفل عائداً الى عزلته الجميلة في البيت .

المقعد التاسع: مقعد في صالون الحلاقة

مجبراً يذهب الى الحلاق بين آونة وأخرى، وفي ذاكرته قصة ذلك الحلاق الثرثار للكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، التي كانت من ضمن قصص ومفردات منهج القراءة في الصف الرابع الابتدائي . ولكن ما الذي يفعله ؟ لقد اعتاد كغيره على حلّاقه، الذي يكاد لا يسكت في حديثه المتواصل، وكأن كلامه وقصصه حبات مسبحة قديمة، تم رصف خرزها بعناية بالغة، كأنها حياكة امرأة خبيرة بالغة الدقة .

هذه المرة وبعد لحظات من جلوسه على كرسي الحلاق، شعر بتصدع رأسه من كثرة الكلام، ونبرة ذلك الصوت الذي اعتاد عليه مجبراً، ومن قصصه التي لم تدع حرباً ولا سلماً، ولا أوضاع البلاد، ولا حكايات الجيران والعباد، ومستقبل الأولاد، وفلان قال كذا، وعلان فعل كيت . وفي لحظة صادمة انفلت من بين يدي حلاقه الثرثار، وخرج مسرعاً، يهرول، ويولول، وهو يلعن السياسة والسياسيين، والروس واليابانيين، والناس أجمعين .

المقعد العاشر: مقعد في البيت

دائماً يُقول عن نفسه أنه (بيتوتي)، أي أنه يحب الجلوس في البيت، وقضاء أغلب وقته بين أفراد عائلته، ومتفرغاً لكتبه وأوراقه، ويشعر بسعادة غامرة بين افراد عائلته وأحفاده، لكن (البيتوتي) هذه المرة كان يشعر بالضجر بين مدة وأخرى، بسبب الجلوس (الحجر) الاجباري في البيت جراء انتشار جائحة كورونا .

كان يقول لا يهم كم أمكث في البيت، عندما يكون ذلك برغبتي ومزاجي، ولكن إلزامي البيت مجبراً وكأنه اقامة جبرية يزعجه جداً، لكنه قرر الاستمتاع بوقته، فوضع خطة لإنجاز بعض مشاريعه العلمية والثقافية، فقطع شوطاً طويلاً في الكتابة، وغاص فيها الى مديات بعيدة لتحقيق بعض أحلامه وتطلعاته القديمة .

***

د. ستار البياتي

في المثقف اليوم