أقلام ثقافية

ضياء نافع: شئ عن كتاب ترويا حول غوغول

ولد هنري ترويا (واسمه الحقيقي ليف ارسينوفيتش تاراسوف) في الامبراطورية الروسية عام 1911 بموسكو في عائلة غنية منحدرة من اصول شركسية وارمنية، وهاجر مع عائلته الى فرنسا عام 1920 (اي بعد ثورة اكتوبر 1917)، وتوفي في فرنسا عام  2007، واصبح هناك اديبا فرنسيا كبيرا، واصدر اكثر من مئة كتاب بالفرنسية بين روايات وقصص ودراسات تناولت السيرة التاريخية والفكرية لشخصيات بارزة، ومن بينها مجموعة من الكتب عن الادباء الروس الكبار، ومن جملة تلك الاصدارات كتاب عن غوغول صدر بالفرنسية وتمت ترجمته الى الروسية بعد اكثر من ثلاثين سنة على اصداره في فرنسا ( بعد انهيار الدولة السوفيتية)، وليس عبثا ان هنري ترويا حاز على تسمية (اكثر الادباء الفرنسيين روسيّة)، وان ابنته اهدت لروسيا بعد وفاته كل ارشيف والدها ووثائقه الفريدة، واعلنت، ان تراث والدها الفكري (..قد عاد الى الوطن الام ..) .

لم استطع في حينها ان اطلع على كتاب هنري ترويا عن نيقولاي غوغول، ولكني وجدت في احدى الاعلانات حول غوغول مقطعا من ذلك الكتاب، وقد ادهشني ذلك المقطع بصورته الفنية غير النمطية، اذ يؤكّد ذلك المقطع على جوانب غير اعتيادية بتاتا حول حياة غوغول وابداعه، منها مثلا، انه كان (... أغرب شخصية في تاريخ الادب الروسي...) وانه (....كانت و لازالت توجد اساطير عن حياته ومماته اكثر مما توجد وقائع محددة...)، وهذا ما جعلني انتبه الى هذا الكتاب، وان ابدأ باليحث عنه فعلا كي اطلّع عليه بدقّة وامعان .

 اصدر هنري ترويا كتابه عن غوغول عام 1971 في باريس، اما الترجمة الروسية، فقد صدرت عام 2004 (واعيدت طبعاتها عدة مرات لاحقا)، وتقع طبعة 2004 في(640) صفحة من القطع المتوسط، وبعد الاطلاع على كتاب هنري ترويا عن غوغول فهمت طبعا، لماذا لم يترجم (بضم الياء) هذا الكتاب في الفترة السوفيتية، اذ ان الصورة الفنية التي رسمها هنري ترويا لغوغول تختلف تماما وكليّا عن المفهوم السوفيتي (ان صح التعبير) لصورة غوغول الفنية ودوره في مسيرة الادب الروسي وتاريخه،  فالمنظّرون السوفيت كانوا يعتبرون غوغول  واضع اسس الواقعية الانتقادية (او الواقعية النقدية وفق بعض المصادر) في الادب الروسي، والتي انتهت بانتصار منهج  الواقعية الاشتراكية في آداب شعوب الاتحاد السوفيتي قاطبة حسب تلك المفاهيم، وقد لاحظنا كل ذلك في دراستنا للادب الروسي في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن العشرين، اذ كان التأكيد دائما يدور حول واقعية غوغول وانتقاده للجوانب السلبية في المجتمع المحيط به، اي مجتمع الامبراطورية الروسية القيصرية، دون الاشارة الى ان هذه الانتقادات موجهة ضد الجوانب السلبية في الحياة الانسانية عموما، وبالطبع، دون الاشارة  الى غرائبية بعض نتاجاته الفنية وخياله الجامح في مضمونها، الا انه يجب القول رأسا، ان هذه المفاهيم قد اختفت تقريبا في النقد الادبي السوفيتي منذ اواسط سبعينيات القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي نفسه، ولكننا كنّا نرى بعض انعكاساتها في بعض اوساط عالمنا العربي ليس الا، وذلك لان تلك الاوساط كانت بعيدة ومنعزلة تقريبا عن الوقائع السريعة الجديدة التي كانت تحدث في المجتمع السوفيتي آنذاك، ولهذا فانها كانت تكرر –  بعناد يرفض حتى النقاش - نفس المعلومات السابقة لديها ليس الا، بينما الوقائع الجديدة كانت واضحة المعالم جدا لمن يتابع مسيرة المجتمع السوفيتي واحداثه ويعرف طبيعة ذلك المجتمع وصراع التيارات الفكرية في اعماقه، هذه الوقائع التي ادّت في بداية التسعينيات الى تلك النتائج المعروفة من الظواهر الجذرية والحاسمة وظهور دولة  روسيا الاتحادية واختفاء الدولة السوفيتية وتحوّلها الى مجموعة كبيرة من الدول المستقلة والمتنافسة- بعض الاحيان - حتى فيما بينها، اذ ان تلك الظواهر الجوهرية الكبرى لا تحدث في المجتمعات بين ليلة وضحاها كما يقول التعبير العربي المعروف، وانما تنضج تحت نار هادئة وتستغرق زمنا طويلا، والادب هو احدى المؤشرات المهمة في تاريخ ومسيرة تلك المجتمعات، التي تحدث فيها التغييرات الجذرية الكبرى .

كتاب هنري ترويا عن غوغول هو نتاج فني ووثائقي في آن، فني لانه مكتوب باسلوب ترويا الحيوي وكأنه رواية يلتهمها القارئ بمتعة، ووثائقي لانه يعتمد على رسائل غوغول وابداعه الادبي وسيرة حياته، والكتاب باختصار كلمة جديدة بالنسبة للدراسات حول هذا الكاتب الكبير، اذ تناول ترويا حياة غوغول الذاتية متجانسة مع  خصائص نتاجاته، واستطاع ان يرسم للقارئ لوحة فنيّة لغوغول في مزيج هارموني يوحّد ابداعه ومسيرة حياته، لوحة تساعد القارئ ان يتفهم اسرار غوغول ولماذا اصبح اكثر الادباء الروس محاطا بالاسرار والاساطير عن حياته وابداعه، ومن الطريف ان نختتم مقالتنا هذه بالاشارة الى ان الترجمة العربية لهذا الكتاب قد صدرت في مصر عام 2010 بعنوان – (غوغول سيرة حياة ممزقة)، ويمكن القول ان هذا العنوان للترجمة العربية صحيح وملائم فعلا لمضمون الكتاب، ولم استطع ان اطلع على هذه الترجمة مع الاسف، وبالتالي، لا استطيع ان احدد، هل ان هذا العنوان موجود في النص الفرنسي للكتاب ام هو اجتهاد المترجم ليس الا، اذ ان عنوان الترجمة الروسية لا يشير الى تلك التسمية، وفي كل الاحوال، فان ظهور الترجمة العربية لكتاب هنري ترويا هو دليل آخر على اهمية هذا العمل الابداعي عن السيرة الذاتية لكاتب روسي وعالمي كبير مثل نيقولاي فاسيليفتش غوغول ... 

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم