أقلام ثقافية

علي الجنابي: غزَّةُ ولسانُ العرب

تقولُ العربُ؛ باعَ حاجةً، وباعَ ل، وباعَ على، وباعَ من، ولا تُستَعملُ عبارةَ "بعتُ منه حاجةً" على ان معناها "بعتُ له" إلّا قليلاً رغم أنها فصيحة، فيُقَالُ: بَاعَ من فُلانٌ، إِذا اشْتَرَى وباعَ مِنْ غَيْرِه. لكنه قياس شاذ.، علما ان البَيْعَ: مِنْ حُرُوفِ الأَضْدادِ في كَلامِ العَرَبِ. وإذاً، فلمَ قال الفصيحُ المليحُ القسيمُ الوسيمُ ﷺ (المسلمُ أخو المسلمِ، ولايحلُ لمسلمٍ باع من أخيه بيعًا فيه عيبٌ إلا بيَّنه له) وما قال (باع لأخيه بيعاً)؟!

لمحتُ هذا التساؤلَ موجهاً لدكتورأستاذٍ ضليعٍ في اللغة العربية في وسائل التواصل فأجابَ السائلَ بما هو متوفر بين يديه في المعاجم ومتيسر. فلم أقتنعْ بإجابتهِ فكتبتُ ردِّي للمتسائل بسطرٍ موجزٍ ثم رحتُ أبحثُ عن شرحٍ وافٍ شافٍ للحديث النبوي في سجلات آبائيَ الأولين فلم أجد شيئاً يغني ويسمن، لذلكَ سمحتُ لخافقي أن يقعدَ بينَ القاعدين لحظةَ نطقِ النبي ﷺ لكلمته الشريفة، كي يعيشَ النبضُ في جوِّ البيان حينئذٍ، ففهمتُ معنى الحديتِ بذا شرحٍ وبهكذا فهم:

( المسلم اخو المسلم، وتربطهم عروةٌ وثقى جعلت من المحال أن يتسلل الغش في تجارتهم، ولذلك فعلى البائع أن يُعطيَ أخاهُ مما لديه من بضاعةٍ طلبَها، (يُعطيه) وليس (يبيعُه)، لأن العروة الوثقى قد إرتقت بهما حتى جعلت من لسانيهما يستحيان نطقَ لفظتي "البيع والشراء" فأبدلاهما بالعطاء تودداً لأنفسهما وتزكيةً فيماهما فيه يتداولان، رغم أن لفظتا "البيع والشراء" لا عيبَ ولا عِللَ فيهما ولا زللَ، ولا فيهما ريبٌ ولا خللٌ ولا عطل)!

أجل، لا عِللَ ولا خلل، بيدَ أنه لمّا كانَ الأمرُ ههُنا رهيناً بتجنبِ الغشِّ في التجارة فقد أتى الفصيحُ المليحُ ﷺ بالحرفِ (من) بعد فعلِ (باعَ) لتضمين الفعل (باعَ) معنيي (العطاء والبيع) معاً بإلتقاءٍ وسويةً بإستواء، وكأني بالحديثِ يُشبه تماماً معنى الآية المباركة (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) وليس (على القوم الذين كذبوا ) أي: أنجيناه من القوم ونصرناهُ عليهم (نجاة ونصر) معاً وسويةً، وذلك ليُعلِّمَ النبيُّ  ﷺ المسلمَ البائع ويُشعرُهُ أنه لا يبيعُ لأخيهِ بل يُعطيه فيبادله أخوه المبتاعُ بدفع ثمنٍ مقدَّرٍ كي يتمكن البائعُ من مواصلةِ مهنتهِ في السوق ولا يُفلسُ فيقعدُ على رصيفٍ منقعرٍ بالفقرِ وللدراهمٍ مفتقر.

وإذاً، فلا حاجةَ لإمرئٍ أبداً من دراسةِ النحو لفهمِ معاني البيان، فعبدالله بن مسعود عاش بين إبلِ سيدِهِ وما سمعَ بالزمخشري ولا رأى سيبويه لكنه فهِمَ معانيَ البيان خيراً من الفٍ مؤلَّفٍ من سيبويه وابن جني وعنبسةَ الفيل.

وإذاً، فما على المرء  منّا الا  ان ينزعَ عنه لباس الضجر والتأفف حينما ينصتُ لكلام الله والرسول وكلام الجار وعابرِ سبيلٍ مار، وأن يلبس لباسَ الرزانةَ والتلطُّف حينما يتكلّمُ في الدار أو مع جارٍ أو مع ضيفٍ زار، ويومئذٍ...

نرى البائعَ الجوّالَ المنادي (شعر البنات، أبو اللفات) في دروب بغداد ودمشق والقاهرة يُفسِّرُ بيانَ القرآن بتبيانٍ أجود من ألف طبري وقرطبي ورازيّ. ويومئذٍ نرى المسلم يأنفُ أن يتضرع بدعاءٍ صبيانيٍ أجوف، ونداءٍ كسيفٍ وسخيف لنصرة أهلِ غزة لأنه سيزحفُ نحوها وسيحررها، ولا رادَّ لزحفِ زاحفٍ يفهمُ كلام معجز القرآن وحديث النبي العدنان.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)-الروم 4 و5.

وإنه لأمر لطيف أن يقوم أ.د متخصص في اللغة بإعادة تغريد إجابتي على سؤالِ سائلهِ على صفحته الشخصية رُغم جهالتي في علوم الضّاد، وذلك هو شأنُ أهل العلم الحق وليس العلم الزَّق، وما زادني نشرُ إجابتي معشار فخرٍ لأن جهالتي بعلوم الضاد مازالت قائمة ولن تزول لكني لبيان الضاد متذوق وحسب.

***

علي الجنابي- بغداد

في المثقف اليوم