أقلام ثقافية

عبد العزيز الناصري: قراءة في رباعية للشاعر يحيى السماوي

شَـكـوتُ مـن الـمـكـانِ الـى زمـانـي

ومن زمَـنـي شـكـوتُ الـى مـكـانـي

*

وفي الـحـالـيـن كـنـتُ أســأتُ ظـنـاً

فـمـا جـاوزتُ في الـشـكـوى لـساني

*

أرانـي لـو طـلـبـتُ سـوى نـصـيـبـي

مــن الأيــامِ لــم أُضِــفِ الــثــوانـي

*

ومَـنْ ســألَ  الـورى تـغـيـيـرَ حـال ٍ

كـمَـنْ ســألَ الــمـزيـدَ مـن الـهَـوان ِ

***

أربعة ابيات لا أكثر حملت هما كبيرا وتمثل شكوى وجودية عميقة، تنضح بالتأمل والحيرة والتسليم في آنٍ معًا. وهي على قصرها تنطوي على ثنائية فنية ثرية تجمع بين الزمان والمكان، وبين الداخل والخارج، وبين الشكوى والرضا.

البيت الأول:

"شكوت من المكان إلى زماني

ومن زمني شكوت إلى مكاني"

يبدأ الشاعر شكواه بعنصرين ثابتين في الوجود الإنساني: المكان والزمان. وهما في جوهرهما ليسا مذنبَين ولا واعيَين، لكن الإنسان حين يعاني يفتش عن مشجب يعلّق عليه ألمه، حتى لو كان ذلك المشجب هو الإطار الذي يحتوي حياته كلها.

الشكوى من "المكان" إلى "الزمان" تعني أن البيئة أو الواقع المحيط (المكان) أصبح ضيقًا كئيبًا، فيستنجد بالزمن علّه يحمل التغيير.

ثم تتكرر الشكوى بشكل عكسي: من "الزمن" إلى "المكان"، ما يعبّر عن دورة معاناة لا تنتهي، كأن الوجود كله تواطأ على الألم.

وهذا البيت يحمل طابعًا فلسفيًا سوداويًا يعكس حيرة الوجود، وكأن لا مهرب من المعاناة، سواء في البعد الزمني أو المكاني.

البيت الثاني:

"وفي الحالين كدت أسأت ظنّا

فما جاوزت بالشكوى لساني"

يضع الشاعر نفسه في موضع المحاسبة، وكأنه خشي أن يكون قد أخطأ مع الله أو مع القدر حين أطلق شكواه.

لكنه يُخفف من وطأة تلك الإساءة بأنه لم يتجاوز القول باللسان، أي لم يكن في قلبه اعتراض، بل هي مجرد أنين إنساني لفظي.

هذا البيت يمثل لحظة تأمل أخلاقي، فيها حسّ ديني رقيق، وحرص على ألا تكون الشكوى تمردًا، بل تنفيسًا.

البيت الثالث:

"أراني لو طلبت سوى نصيبي

من الأيام ولم أضف الثواني"

هنا تتجلى قناعة ضمنية يعبّر عنها الشاعر بتواضع بالغ. فهو لا يطلب إلا نصيبه المقدّر من الحياة، من "الأيام"، بل يؤكد زهده حتى في "الثواني" الزائدة.

هذا التصوير البسيط فيه تجريد جميل، حيث تتحول الثواني إلى رمز للجشع أو الطمع. وفيه أيضًا نقد مبطن لمن يسأل فوق ما قُسِم له، بما يشير إلى حكمة الرضا والتسليم.

البيت الرابع:

"ومن سأل الورى تغيّر حالٍ

كمن سأل المزيد من الهوان"

هذا البيت يحمل حكمة قاسية تستند إلى تجربة: أن طلب العون من الناس أو التماس التغيير من البشر غالبًا ما يؤدي إلى ذل أو خيبة.

فالشاعر يشبّه من يسأل الناس بتحصيل "الهوان" نفسه. هنا نبرة تشاؤمية ممزوجة بنزعة زهدية، وربما تصوفية، فيها انكفاء إلى النفس والاعتماد على الله لا على الخلق.

السمات الأسلوبية والفنية:

التوازي التركيبي في الشطرين الأول والثاني من البيت الأول، أعطى إيقاعًا دائريًا يعكس فكرة الدوران في الألم.

استخدام المقابلات (مكان/زمان، قول/فعل، أيام/ثواني، الورى/الهوان) منح النص عمقًا فكريًا وديناميكية فنية.

اللغة تتسم بالرقة والإيجاز، لكنها مشبعة بالدلالة. كل بيت كأنه حكمة مستقلة.

غلبة التجربة التأملية والوجدانية على الشكل الخطابي، ما يجعل القصيدة أقرب إلى المونولوج الداخلي منه إلى الخطاب للغير.

وأخيرا فإن شاعرنا المبدع رسم  هنا لوحة شاعرٍ حكيم، واجه صراعه الوجودي بالتأمل لا بالسخط، وبالشكوى المهذبة لا بالتمرّد. تتجلى فيها فلسفة الرضا والزهد، ممزوجة بألم إنساني شفيف، مما يمنحها قيمة وجدانية وفكرية كبيرة.

***

قراءة: عبد العزيز الناصري

في المثقف اليوم