أقلام فكرية

الخيال الخلاق عند الصدر

raheem alsaidiفي مؤتمر الفلسفة الأخير وعند تقديم بحثي حول الخيال السوسيولوجي، سألني احد الإخوة في مداخلة، عن علاقة الخيال بالتغيير، ولم تسنح الفرصة للإجابة في وقتها لضيق وقت المؤتمر، وكان بودي إخباره ان الخيال هو المسؤول عن التصميم والتشكيل وتقديم المغاير والمختلف وفي شتى المجالات وبالتالي ففرض الخيال (وهو وزير خارجية العقل، أو الدائرة المختصة بالتصميم والتشكيل)، يتيح لنا قراءة وتنشيط وتوليد ما هو مختلف، وهذا ما وجدناه عند المغاير الذي قدمه الفكر الشرقي القديم أو اليوناني أو الإسلامي، فالجديد والمغاير سمح للحضارات ان تتقدم وتغير وتسجل وتنتقد وتقدم البدائل وتولف الأفكار وتولد الجديد، نعم يمكن القول بأنه جهد عقلي بامتياز، إلا ان استبعاد التأمل الذي يتعكز على مقدرة خيالية تتصل بالماضي والحاضر والمستقبل ومقارنة الأفكار ونقدها وتقديم بدائلها لا يقود إلى فهم منصف لتلاقي وتداول وهجرة الأفكار بطريقة رائعة .

ان غوص أفلاطون وأفلوطين وأفكار الفلسفة الإسلامية والاشراقية والعرفانية والمتصوفة،اعتمدت على خيال خصب وكذا ما فعله ديكارت وكانت وهيجل ونيتشه وهيوم وغيرهم من الفلاسفة .

إن جانب التأمل الذي نتحدث عنه والذي يفصح عن توقد الخيال الخلاق التنموي (كل بحسب سياحته) يفرض علينا ان نقراه في مجالاته المتعددة فما يعنينا هنا ببساطة إنما هو تلك القدرة العجيبة على توليد المغاير والمختلف الخلاق (المؤثر، النافع، المتميز) ومجالاته المتعددة ستشمل كافة مجالات الحياة، فالحديث عن خيال الفلسفة الساذج مثلا اليوم لا يجعلنا نقدمه على خيال الفقه مثلا اذما كان الأخير أكثر قوة وجدة وابتكارا، وهذا جانب ربما لا يعجب المشتغلين في الفلسفة في العراق أو الوطن العربي، مع ان الغرب اليوم يتجه إلى فلسفة تتعاطى مع الفقه والقانون والأخلاق بشكل عام وهو ما يمثل الجانب البواتيقي في الفكر .

ومع استغراقي في هذه المقدمة فان ما قادني إلى موضوعة الخيال عند الصدر الثاني انه كان مشروعا في أصله عن الصدر الأول لبحث المقدرة التخيلية لديه وهي بكلمة واحدة عملاقة بطريقة كبيرة، ومع انه مشروع يمكن ان يقدم إلى طلبة الدراسات العليا لقراءة مقدرة وكفاءة العملية التخيلية للفلاسفة جميعا وقراءة نوعية تخيلاتهم بناء على أفكارهم وسياحتهم الفكرية، إلا انه اخذ مسارا آخرا في محاولة لقراءة فكر الشهيد الثاني، بعد ان كان مشروعا لفهم تنوعات الصدر الأول .

وعلى أي حال، فالمخيلة التي يتمتع بها الصدر الثاني وهو الموسوعي المتنوع والمبتكر المصلح، يعطي لنا صورا مهمة لقراءة ذهنية رجل الدين العامل الذي يمكن له تقديم الأفضل ليس على مستوى الفكر والدين بل والعلوم وفهم المجتمع وقراءة الواقع .

وإذا رسمنا خارطة أولية لمعطيات وخصائص تخيل الشهيد الثاني سوف نجد انه :

أ‌- انه يستخدم مخيلة واقعية لا تبتعد عن دمج الجانب النظري بالعملي أو العلمي بالتطبيقي أو الإنساني بالإلهي أو الفردي بالاجتماعي، وهذه الثنائية تتصل بالواقع الذي لم يفارقه وهو هنا باعتباره.

ب‌- انه يستند في أفكاره التي يقدمها إلى جوانب عديدة منها العقلي والديني والأخلاقي .

ت‌- إن تلك المخيلة التي قام بتنميتها طوال عقود من الزمن كانت غير منفلتة، وهي منضبطة إلى درجة انها مقيدة النزوات بشكل يستند إلى منطق حياتي جاد ومنهج علمي ثابت .

ث‌- استطاع المصلح المفكر الصدر الثاني ان يوفق بين أفكار خيالية غاية في الدقة تتصل بعالم الروحانية العرفانية، فرأيه بابن عربي مثلا (وهو رائد الخيال في الفلسفة الإسلامية) كان منصفا من خلال تقويم فكر ابن عربي ونقده الايجابي، ومع هذا كانت آراؤه العرفانية ومستوى خيالها تمثل تجربة خاصة تحتاج إلى المزيد من التحليل والقراءة .

ج‌- هو خيال تنموي، جماعي اجتماعي وليس ذاتيا منعزلا، توفيقي موسوعي وليس متطرفا أو مستبدا، مطاوع مرن وليس متصلبا، ويستخدم البدائل .

وأيضا وبشكل مختصر يمكن القول ان أفكار المصلح المفكر محمد محمد صادق الصدر وخياله توزع على محاور مهمة منها :

1- الفكري: وذلك ما يترسخ بالإمكانية العالية لفهم وتطبيق المنطق الاستقرائي الكبير في جوانب فكرية محورية منها الفقه وأصول الفقه والتاريخ والفلسفة . وهناك جهد خيالي خلاق في رسم المشروع الإسلامي ( المدينة الإسلامية المستقبلية الفاضلة ) والتي دائما ما ابرر للمنغلقين على ذواتهم بأنها لو لم تكن إلا (مشروع) كما هي مشاريع أفلاطون واغسطين لكفى بأنها مشروع عراقي إسلامي يطرح وفق قراءة فكرية مستقبلية . وأيضا خيال في التنظير لحقوق الإنسان وللمستقبل وفي فلسفة التاريخ .

2- الخيال الفقهي الأصولي : وهو جهد لم يدرس حتى هذه اللحظة فتعدد الاحتمالات وطرق الاستنباط والبرهان وتقديم أفضل الآراء الفقهية الأصولية تحتاج إلى عقل ثابت وخيال متحرك وهذه هي ميزة الخيال الفقهي الأصولي الخلاق .

3- الخيال الاجتماعي على مستوى قراءة الواقع ومحاربة الطاغية صدام والانتصار عليه وإدارة الحشود وتحويل المجتمع ونقد السوء وتقديم برامج عمل مغايرة، وكل هذا مر على الشهيد الكبير طوال سنوات عديدة، وعاش تجارب مهمة ورسمها في ذهنه، ويمكنني القول ان أصعب الخيالات هي خيالات أو تخيلات المصلحين والقادة المحررين لأنهم يعيشون تجربة تخيل الموت والإصلاح معا على يد قاتليهم وكأنها معادلة موت للمصلحين، ففي الوقت الذي يصلح المصلحون المجتمع تنتهي حياتهم أو تستأصل وهذا التفكر لم يثني المصلح من الموت في سبيل الإصلاح .

4- تخيل المستقبل برسم أدوات الإصلاح والثورة والتغيير .

5- تخيل التاريخ ونهاية التاريخ، بتحليله وتقويمه ومحاوله الاستفادة من الأخطاء التي وقعت بها كل من الأمة الإسلامية، بل والحركات الإسلامية التي وقعت وما زالت تقع إلى اليوم في مستنقع جذب المسؤولية التي كشفت عن خيال فقير جدا بل وذاكرة بالية كانت بالأمس تردد مقالات كبار الإصلاحيين ومنهم الشهيد الأول القائل هل عشنا حياة هارون الرشيد لننتقده، كناية عن سوء عمل هارون وسوء عملكم الذي سوف تقعون به وهي نبوءة شملت العشرات ممن وقعوا بفخ هارون من الإسلاميين .

6- تخيل العلوم المتطورة وعلاقتها بالفقه الحديث .

7- التخيل السياسي وهو الأهم في فكر الشهيد الصدر لأنه خيال يوجه إلى أكثر من طرف فهو كان يحاول جذب الأقرب إليه الذين جفوه ثم يقاتل الزمرة الصدامية الطاغية بكل جبروتها كدولة ثم يحاول مقارعة الطغيان الأمريكي بكل تشعباته ومع هذا فهو يعي المرحلة وخطورتها ويعيها وعيا استراتيجيا متداخلا مع الجانب الجيوستراتيجي العولمي الحديث ومتصلا بالتاريخ بكل أبعاده .وحسبي ان التيار الصدري اليوم متمثلا بامتداد وقيادة بقية آل الصدر يعي (حماه الله) هذه المرحلة ويتعامل معها وفق فهم وصبر .

أظن بان هذه الكلمة العجولة تحاول التأكيد على ان العقل الذي تمتع به الشهيد الثاني كان موجودا لدى الجميع إلا ان مايميزه عند الشهيد السعيد المفكر الصدر الثاني انه كان عقلا خلاقا يستند على فروض الخيال التي قادت إلى حزمة من الأفكار التغيرية والمباغتة والتنويرية التي قلبت المعادلة في العراق وحولته إلى شعب لا يخاف بعد ان نزع الشهيد الصدر الخوف من قلب ذلك الشعب .

 

د.رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم