أقلام فكرية

رحيم الساعدي: فلسفة تاريخ القبيلة.. صورة من صور مدرسة التاريخ العراقية

raheem alsaidiان تبعيض مفهوم فلسفة التاريخ الى جزئيات متناثرة، لم يكن منهجي الذي يحمله عنوان مقالي، وما أردته هنا قد يتوافق مع آلية مدرسة الحوليات الفرنسية التي فكت ارتباطات فلسفة التاريخ بالصورة السديمية العامة التي تتحدث عن ما يشبه الكليات في فهم التاريخ، فتحتم عليها البحث في الجزئيات من تاريخ اللصوص والبغايا وتاريخ المدن والكتاب وسوى ذلك .

لكن ما الذي يمكننا تحقيقه من غاية بحث فلسفة تاريخ القبيلة، وهي صورة شعبية ربما لا حمولة فكرية تتخللها او لا يمكنها إضافة الجديد للفكر التاريخي .

هذا السؤال التحدي يحتاج الى إجابة ما، وأظن بان إعادة النظر فيه ينطلق من تصورنا للقبيلة على انها مجتمع صغير او مصغر، بل انها الملهم لمؤسس فلسفة التاريخ ابن خلدون، مع هذا فالموضوع يحتاج الى إعادة البناء من قبل الباحثين او طلبة الدراسات، وترتبط القبيلة بعلوم الاجتماع فهي القواعد الأساسية لفهم المجتمع والتاريخ، فالقبيلة السياسية مثلا، يمكنها تغيير التاريخ بنحو ما، ولا ضرورة للتذكير بقبيلة جنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وقبيلة العثمانيين والصفويين والخوارزميين والساكسون والجرمان ...الخ، والقاعدة العامة انما نسبته 75% من الذين حكموا التاريخ كانوا عبارة عن قبيلة او شبه قبيلة . حتى انها تحولت في كثير من البلدان ومنها العراق اليوم الى القبيلة السياسية، وقد تكون الأحزاب سابقا واليوم تعبر تعبيرا دقيقا عن مفهوم القبيلة السياسية.

ان النظرة الطولية لفلسفة لتاريخ تقدم لنا صورة تختلف من فيلسوف الى اخر لتناول القبيلة في تنظيراتهم فابن خلدون كان واقعيا في استثمارها والخروج بمحصلة لفهم التاريخ بعكس من كان وربما من جاء بعده، فقد يرجع سبب عدم اهتمام اليونان بفلسفة التاريخ لذلك الجانب، اقصد عدم دراسة المجتمع والاهتمام بالعلل البعيدة غير المرئية فاهتمامهم بالعلل الطولية والمرتبطة بالميتافيزيقا جعلهم يهملون العلل العرضية والمتعلقة بالمجتمع وتطبيقاته الإنسانية فاستغرقوا بالعلل التي لا ترتبط بكتل الناس وقواعد حياة التكتلات البشرية والبناء الذي تتركه، وهذا ما تلافى الفكر الأوربي الأخذ به فكانت تنظيرات هيكل ونيتشة وروسو وشبنكلر و توينبي وكارليل وماركس تتحدث عن الكتل البشرية والتجمعات، و كانت بعيدا عن مفهوم القبيلة لان مجتمعهم لم يكن بذلك الاتجاه، مع ان تقسيماتهم تنتمي الى تصورهم للتجمعات سواء أكانت القبيلة ام الدولة ام الحضارة .

كل هذه مقدمة لمحاولة قراءة القبيلة او العشيرة العربية من زاوية فلسفة التاريخ، فذلك التجمع البشري له امتداد في التاريخ، ويجب تخيل كيف نشا واستمر أو امتد وتوزع وتداخل مع غيره او اضمحل او اختلط او تلاشى او توزع بفعل الهجرات في البلدان المختلفة .

وإذ أخذنا العينة التي نريد تطبيقها وهي تخص قبيلة ما في التاريخ مثلا، فهل يمكننا قراءة محرك تاريخ تلك القبيلة، أظن بان الجواب سيكون الإنسان او بمعنى آخر ان في القبيلة العربية على مر التاريخ محرك هو الإنسان (لان ابرز أفراد القبيلة وهو المؤسس، غالبا ما يكون اسمه هو العلامة التي تتميز به القبيلة وتحمل اسمها وفق قوة اسمه ) لكن المشكلة في المحركات الأخرى داخل منظومة الانسان والتي لا تختلف عن المحركات التي نجدها في الدولة والحضارة والمدينة...الخ فهو يحركه الاقتصاد والحاجة والغرائز والعقل والبيئة.

 فالغرائز واللذة (التي أعدها من محركات التاريخ) بنوعيها السلبي والايجابي هي محرك للأحداث التي سوف تصبح تاريخا فيما بعد والتي يحملها أبناء القبائل بقوة (اقصد غرائز الإعداد للزعامة او التعايش وفق إثبات الوجود) بل ويربي نفسه على أسسها (مع انها وجود وهمي لا قيمة حقيقية له) لان الإمام علي يحدد قيمة الإنسان بما يحسنه بقوله قيمة كل امرئ ما يحسنه، واعتقد انها ملهاة وهمية وحرب للغرائز، دافعها الحقيقي ان يثبت الإنسان وجوده بالنسبة للآخرين،اما ما يحسنه فهو كينونته الحقيقية ومقياس ما يحسنه الإنسان هو ما سيتركه من فعل جميل صحيح او علم او صنعة أو نتاج أدبي أو عمل مميز .

اذن فالمحرك الخاص بتاريخ القبيلة أحيانا هي الغرائز وتارة هي العقل وأخرى هي الحاجة، ومن الغرائز ما يخضع الى اثر البيئة او الوراثة، واعتقد بان مشاركة علم النفس هنا بالإضافة الى علم الاجتماع سيكون له الأثر المعرفي الطيب في فهم حكمة التاريخ لكل وحدة مجتمعية عامة والتي تتمثل بالقبيلة .

ويدور في خاطري مقارنة نمط السلوك الخاص بالقبائل الجرمانية اوالساكسونية الغربية بالقياس الى قبائل المغول او قبائل العرب والمسلمين او قبائل الأناضول من العثمانيين او القبائل الامازيغية في المغرب العربي او قبائل القوقاز ....الخ . ومن كل هذا الارخبيل الاجتماعي يمكننا مقارنة كل من الصراعات داخل تلك القبائل، القواعد العامة للعيش والتنافس، الغايات والأهداف الخاصة بالتوسع والانتشار، السنن الطبيعية والكونية الحاكمة لوجودهم، مقادير الوعي والحرية في داخل تلك الكيانات بالإضافة الى دور مفهوم العصبية في داخل تلك القبائل، وهي الجانب الملهم لابن خلدون، الذي لم يستثني صورة القبائل حتى من عنوان مؤلفه الأشهر في فلسفة التاريخ .

ويمكن إجالة الفكر لنعرف كم من التواريخ تغير بطريقة وأخرى بمجرد تضارب الغرائز بين المجتمعات، وكم من الدول والمجتمعات والقبائل اضمحل لمجرد صراعات الغرائز، بعضها اندمج وآخر خضع لنظرية التحدي والاستجابة التي قال بها الفيلسوف توينبي فكثير من القبائل عند دخولها في صدمة ما فهي اما ان تمتصها او تأكلها الصدمة، وما نراه اليوم من القبائل الأصلية في العراق مثلا هو عملية امتصاص وتغلب على الصدمات وإلا فان العراق ببيئته القاسية (بيئة الحرب) لا يمكن العيش فيه بيسر وبعض القبائل كان حيويا يولد وينمو ويصبح شابا، ووفق نظرية شبنكلر المتعلق بحتمية موت الحضارات فان القبائل تستمر وتتجدد وتنزع جلدها أحيانا وهي لا تهرم وتموت الا عندما تدخل مرحلة الخمول، او مرحلة التقسيم الى أجزاء عديدة.

وتخضع قوانين القبيلة الى مفهوم السببية والى سنن التاريخ، فما ينطبق على مفهوم المجتمع من سنن تاريخية مثل سنة التغيير والنصر والاستبدال وغيرها ينطبق على تفاصيل حياة القبائل على مر التاريخ، فهي خاضعة للسنة الكونية . وتخضع القبائل لحتمية البقاء والمصير المرتبط بالدول او الحضارات، ولقوانين السببية

وقد لا تجد الكثير من القبائل صانعة لتاريخها، بمعنى ان الكثير منها لا تعي قضية قضم المستقبل لصنع التاريخ، فالمشكلة الأساسية خصوصا مع قبائل الجنوب انها أسيرة بعض التاريخ ولهذا فان مستقبلها يتوقف أحيانا، ويمكن لنا قراءة الاجتياح الإيديولوجي الشيوعي الذي احتل جنوب العراق بطريقة وبأخرى والقادم من روسيا وبوساطة حزب توده الشيوعي الإيراني والذي استهدف كيان القبيلة العراقية فظهر الكثير من الذين لديهم الاستعداد لخوض تلك المغامرة المشفوعة بالحرية والمشبعة بالتطلع الى المستقبل وتعديل سلوكيات المجتمع الغارق بالفهم الإقطاعي، الا انها مغامرة باردة وصراع بين استعمار فكري وإقطاع برجوازي، ونحن نفهم ان الإقطاع يمثل نوع من الشراكة التي فيها الكثير من السوء وكان يمكن تجنبه، عموما هؤلاء الذين أرادوا حمل مشعل التنوير أرادوا إدخال القبيلة الى سكة جديدة او قبيلة إيديولوجية جديدة ولك ان تتخيل وفق آلية فلسفة التاريخ الى ماذا ستتحول القبائل الجنوبية التي اعتمدتها الشيوعية بكونها الخاصرة البضة التي يمكن اجتياحها، وما أوقف المد الشيوعي هو الدين وليس القبيلة البرجوازية او الإقطاعية او الجائعة.

 وبشكل عام فان القبيلة في جنوب العراق، اعتمدت سننا اجتماعية دون التطلع الى سنن التاريخ، واعتقد بان الهجرات التي خاضتها تلك القبائل جعل منها وحدات بشرية لا تشعر بالحماس الا الى الموطن القريب وهو على عدة أنواع في العراق (الصحراوي- الجبلي – الريفي الجنوبي – الريفي الأوسط) ويبدو ان التوجه الذي أوقف الهجرات التي خاضتها بعض القبائل، كان يلائم ويوائم قابليات بعض القبائل، وهكذا تجد ان بعض القبائل وافقها بيئة دون أخرى، او ان الحاجة هي من أعطى الأدوار لتمارس القبائل وجودها .

ونحن عند الحديث عن فلسفة تاريخ القبيلة لا يمكننا وصف الكثير منها بصاحبة الدور الحضاري، فان نتائج العمران والحضارة هو البناء او النتاج الأدبي او العلمي او الفكري او كل تميز، يمكن للأفراد تذكره خصوصا اذا كان مدونا ومحفوظا كي لا يضيع .

ولو قمنا بوصف بعض القبائل بدورها الريادي او على الأقل بوصفها بالحضارة الاجتماعية فقط، فان الانجازات التي نطالبها بها على الأقل تشمل تقديم جيش من المفكرين او المثقفين او الأدباء والعلماء او على الأقل بعض الأفراد من المتميزين ان لم يكن مجموعة مهمة في تاريخ بلد ما وعندما نقول ان القبيلة تقدم الأفراد الأكثر قوة او جاذبية او تميزا فإنها تقدم أيضا محركا للتاريخ العام وليس المحلي، وخلاف هذا يعني ان كثير من القبائل والتي تشكل الوحدة الثانية بعد الفرد، لم تقدم شيئا الى بلدها او عمرانه او حضارتها وانجازاتها .

وبعبارة أخرى ان الملهاة التي يطلبها الكثير لممارسة السلطة المحلية التي تمثل القبائل، انما هي تقوقع محلي سببه صراع الذوات لإثبات وجودها إزاء تقوقع محلي آخر يشعر أيضا بالندية وضرورة إثبات وجوده (هنا هو التحدي والاستجابة وفق تنظيرات الفيلسوف توينبي)، وهي خاضعة لقوانين تخلقها الصدفة او الحاجة او الاصطفافات، وهي لا قيمة لها بالقياس الى ذلك التاريخ المدون والذي يشمل تاريخ دولة ما او حضارة ما او حتى قبيلة ما تكون منتجة إنتاجا يدون في التاريخ بكونه فيه فائدة، لأنه عبارة عن تاريخ قد يتذكره جيل او أكثر، إلا انه سيكون محدودا اما التاريخ العام فان أفراده يعملون على تحقيقه بطريقتين الأولى هي السلبية ومنها أسلوب الطغيان والثانية أسلوب العلماء والمفكرين والفنانين والأدباء وسواهم وهذا ما يتوجب على القبائل تحقيقه والسعي له .

 

د.رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم