أقلام فكرية

دلالات موت سقراط ونظرياته في خلود الروح

hatam hamidmohsinمن بين اهم حوارات افلاطون التي تتحدث عن الروح هو حوار فيدو phaedo الفيلسوف اليوناني الذي يصف الظروف التي احاطت بموت سقراط. حوار فيدو يجسد ارتباطا واضحا بنظريات ما قبل سقراط عن الروح والعالم، خاصة نظريات فيثاغوروس و انكساغوروس و هيرقليطس . نظرية الأشكال (وتسمى احيانا نظرية الافكار) هي المظهر الاكثر اهمية في الحوار(1). واقعة سقراط تعطينا وصفا لإنسان ابتعد كليا عن حاجات واهتمامات الجسد لدرجة يمكن لروحه ان تنسلخ دون اي شكل من الاضطراب. الحوار يجري في مدينة فيلوس الصغيرة جنوب اليونان . فيدو هو احد تلاميذ سقراط والحاضر اثناء موته، يقوم بزيارة لـ Echecrates . هذا الاخير سمع بمحاكمة سقراط، لكنه سمع ايضا ان هناك فترة انقطاع طويلة بين محاكمة سقراط وموته . يشير فيدو الى انه قبل يوم من محاكمة سقراط كان الاثينيون قد اكملوا زخرفة سفنهم وارسالها الى جزيرة ديلوس، حيث في كل عام يرسلون سفنهم الى ديلوس للاحتفال بانتصار ثيسوس على الكائن العملاق في حضرة الاله ابولو، وخلال هذه الفترة تتوقف جميع الأحكام ضد السجناء.

في الحوار يناقش سقراط طبيعة ما بعد الحياة في يومه الأخير وقبل ان يُنفذ به حكم الاعدام. النقاش الفلسفي يبدأ عندما يشير سقراط الى ان الفيلسوف الحقيقي يجب ان يرحب بالموت لكن الانتحار غير جائز . يندهش سيبيز مما يبدو تناقضا في ان منْ يعتبرون الموت نعمة لا يستطيعون سلب حياتهم بينما يجب عليهم الانتظار الى ان تُسلب حياتهم منهم، ويسأل سقراط ليوضح ذلك، يجيب سقراط اننا ملك للالهة وليس لنا الحق في ايذاء انفسنا. يرى سقراط ان افضل انواع الحكمة هي التي تأتي من العقل وحده وحيث نبتعد اقصى ما يمكن عن ملوثات البدن. يؤكد سقراط ان هناك اشياء توجد بذاتها مثل العدالة بذاتها والخير بذاته والجمال بذاته . هذه الاشياء لا يمكن اكتشافها بالحواس وانما فقط عبر جهود الفكر.

سقراط عوقب بالسجن ثم الإعدام من قبل هيئة محلفين في اثينا بسبب عدم ايمانه بالآلهة (رغم ان البعض يعتقد ان سبب ذلك هو دعمه للحكام الفلاسفة المناهضين للديمقراطية) وبسبب افساده شباب المدينة. سقراط كان منشغلا في حوار مع اصدقائه ثيبانس، سيبيس و سيميس مستكشفا مختلف الحجج لخلود الروح ومبينا ان هناك حياة اخرى تقيم بها الارواح بعد الموت.

حديث تمهيدي

المسرح اُعد في فيلوس وحيث يتقابل ايكريتس مع فيدو يسأل عن اخر اخبار سقراط. فيدو يوضح لماذا حصل التأجيل بين محاكمته وموته، ويصف المشهد في السجن في اثينا في اليوم الاخير مسميا اولئك الحاضرين. هو يقص كيف انه زار سقراط مبكرا في الصباح مع الآخرين. زوجة سقراط Xanthippe كانت حاضرة لكنها كانت حزينة جدا وطلب سقراط ان تؤخذ بعيدا.

سقراط يخبر سيبيس ان ينقل لصديقه تحية الوداع، قائلا يمكنه ان يأتي بعدي لو كان رجلا حكيما، وهو ما اثار الحيرة لدى الحاضرين عن سبب مسارعتهم للّحاق بسقراط الى الموت. بعد ذلك يعلن سقراط"... ان من يمتلك روح الفلسفة، سوف يرغب بالموت، لكنه سوف لن ينتحر".

 جاء في الفيدو"ان الفيلسوف هو اول الناس المحررين لروحهم من جسدهم ". الجسد والروح اذاً منفصلان. الفيلسوف يحرر نفسه من البدن لأن الاحاسيس تفشل في ادراك الحقيقة كما يقول سقراط لسميناس :هل انت توصلت لها (للحقائق) باي احساس بدني؟ ... وانا لا اتحدث عن هذه وحدها وانما عن العظمة المطلقة والصحة والقوة، وباختصار، عن الحقيقة او الطبيعة الحقة لاي شيء. هل حقيقة كل ذلك يتم تصورها من خلال اعضاء بدنية؟

 عندما يحب الفيلسوف الحكمة الحقيقية وليس العواطف ورغبات الجسد، سيدرك بانه يستطيع المجيء اقرب للمعرفة الحقيقية وحكمة الموت، لانه لم يعد يلتبس عليه الجسد والاحاسيس. في الحياة، تكون الوظائف العقلية والفكرية للروح مقيدة باحاسيس الجسد من متعة، وألم ونظر وصوت .الموت هو طقس للتنقية من تلوث البدن. عندما يواجه الفيلسوف الموت، هو يجب ان يرحب به وديا وان لا يُحبط من بلوغه، لانه طالما ان العالم الذي تخلقه لنا الالهة في الحياة هو خير بالضرورة، فلماذا لا يكون الموت سوى استمرار لهذا الخير؟ الموت هو المكان الذي فيه افضل الالهه واكثرها حكمة حيث تقيم انبل الارواح: "ولهذا انا ليس فقط لا احزن وانما لدي امل كبير بان هناك شيء مخزون للاموات، شيء افضل للخيرين وليس للاشرار ". الروح تنال الفضيلة عندما تُنقى من البدن: "انها تتخلص قدر الامكان من العيون والاذان ومن كل اعضاء البدن، هذه العناصر المربكة عندما ترتبط مع الروح تمنعها من اكتساب الحقيقة والمعرفة... سقراط يعرض اربع حجج لخلود الروح:

اولا- الحجة الدائرية cyclical Argument

يفصح سيبيس عن خوفه من الموت لسقراط: " ... هو يخشى عندما تترك الروح البدن فربما لا تجد مكانا لها، وانها في نفس يوم الموت قد تُفنى وتصل نهايتها حالا عند تحررها من البدن... فتختفي وتتلاشى في رحلتها الى لاشيء.

ولكي يخفف سقراط من خوف سيبيس من فناء الروح عند الموت يطرح اولى حججه في خلود الروح. هذه الحجة عادة تسمى الحجة الدائرية. انها تفترض ان الروح يجب ان تكون خالدة طالما ان الحي يأتي من الميت. سقراط يقول "الآن اذا كان صحيح ان الحي يأتي من الميت، فيجب على ارواحنا ان توجد في عالم آخر، لأنه اذا لم تكن ذلك، فكيف ستولد مرة اخرى؟". هو يستمر ليبين مستخدما امثلة عن العلاقات، مثل النائم-اليقظ و الحار-البارد، بان الاشياء التي لها اضداد تأتي من اضدادها. يسقط احد نائما بعد ان كان يقظا. وبعد ان يكون نائما يستيقظ. الاشياء التي هي حارة تصبح باردة والعكس صحيح. سقراط بعد ذلك يدفع سيبيس ليستنتج ان الميت ينشأ من الحي من خلال الموت، وان الحي ينشأ من الميت من خلال الولادة. روح الميت يجب ان توجد في مكان ما فيه تكون قادرة على الرجوع للحياة.

هذه الحجة وتسمى ايضا حجة المتضادات توضح ان الأشكال خالدة ولا تتغير. وبما ان الروح تجلب الحياة دائما، فذلك يعني انها يجب ان لا تموت ومن الضروري ان تكون خالدة. واذا كان الجسد فان وعرضة للموت الفيزيقي، فان الروح يجب ان تكون المضاد له والغير عرضة للفناء. هنا يعرض سقراط حجته الدائرية في خلود الروح مستلهما من الاسطورة اليونانية القائلة بان ارض الحياة تمتلأ بالاحياء كلما امتلأت ارض الاموات بارواح الموتى. الحجة تسير وفق التالي:

1- كل الاشياء تأتي من اضدادها. فمثلا، لكي يصبح الشيء أطول، لابد ومن الضروري انه كان قصيراً.

2- لكي تسير الاشياء من نقيض الى آخر والعودة مرة اخرى، ذلك يستلزم عملية مزدوجة تتم بين النقيضين وحيث كل نقيض يأتي الى الوجود من النقيض الاخر . في المثال السابق، الذهاب من الأطول الى الاقصر يتطلب التقليل، بينما ذهاب الشيء من الأقصر الى الأطول يتطلب الزيادة.

3- اذا لم يكن هناك توازن بين هذين الموقفين المتضادين فان كل شيء سينتهي بالضرورة الى نفس الحالة. في مثالنا الحالي، اذا لم يحصل توازن بين الأطول والأقصر، او الزيادة والنقصان، فان كل شيء سيستمر ليصبح اطول او اقصر.

4- الحياة والموت هما موقفان متضادان، بينما الوفاة والولادة هما عملياتهما المتضادتان، وبالتالي فان الموت والحياة، والوفاة والولادة سيتوازنان.

5- لذلك فان كل منْ يموت سيعود الى الحياة مرة اخرى.

ثانيا- نظرية التذكر Theory of Recollection

نظرية التذكّر وتوضح اننا نحوز على بعض المعرفة اللاتجريبية (مثل شكل المساواة) عند الولادة، بما يعني ان الروح وُجدت قبل الولادة لتحمل تلك المعرفة. تفسير أخر للنظرية وُجدت في حوار مينو لإفلاطون والذي يؤكد ايضا المعرفة السابقة بكل شيء.

سيبيس يدرك العلاقة بين الحجة الدائرية ونظرية سقراط في التذكر. هو يقاطع سقراط ليشير قائلا:...

عقيدتك المفضلة ياسقراط ان تعليمنا هو مجرد تذكّر، واذا كان صحيحا، فمن الضروري ايضا ان يكون هناك وقت سابق فيه تعلمنا ما نتذكره الآن.لكن هذا مستحيل مالم تكن روحنا في مكان ما قبل الوجود في هذا الشكل من الانسان، هذا اذاً برهان آخر على خلود الروح.

حجة سقراط هذه تبين امكانية استخلاص معلومات من الفرد الذي يبدو لا يمتلك اي معرفة بالموضوع قبل الاستفسار منه حوله (معرفة قبلية). هذا الفرد يجب ان يكون حصل على هذه المعرفة في حياة سابقة وهو الان فقط يستعيدها من الذاكرة. طالما الفرد قادر على تزويد اجوبة صحيحة لمستجوبه فيجب ان تكون اجوبته نشأت من تذكّر المعرفة المتحصلة اثناء الحياة السابقة.

ثالثا- حجة الشبه والتقارب The Affinity Argument

توضح ان الشيء اللامرئي والخالد واللامادي يختلف عن المرئي والفاني والمادي. روحنا من النوع الاول بينما جسدنا من النوع الاخير، لذا عندما تموت اجسامنا وتتحلل فان روحنا ستستمر في الحياة.

في هذه الحجة يبين سقراط ان الروح تشبه كثيرا اللامرئي والالهي، والجسد يشبه المرئي والفاني. من هنا يستنتج انه بينما يُنظر الى الجسم بعد الموت كمجرد جثة عرضة للفناء، فان الروح يجب ان تعيش اطول من الجسد.

الناس الفضلاء اثناء الحياة هم اناس عظماء يقيمون بشكل دائم كروح تحت العالم الارضي. اما منْ هم غير فضلاء اثناء حياتهم وفضلوا الجسم والملذات المرتبطة به فان سقراط يصف روحهم هذه : ... بالملوثة، غير نقية في وقت رحيلها، وانها خادم دائما للجسد وهي في حب معه و تُسر بالجسم والرغبات حتى يُقاد هؤلاء للاعتقاد بان الحقيقة توجد فقط في شكل مادي يمكن للانسان لمسها ورؤيتها من خلال الشرب والاكل واشباع النزوات الاخرى. سقراط يستنتج ان روح الانسان الفاضل هي خالدة، والطريق الذي تسلكه الى عالم الاموات يتقرر بالطريقة التي عاش بها حياته. الفيلسوف او اي انسان فاضل هو لا يخاف الموت ولا يحب الحياة المادية كشيء مثالي ولكن عبر حب الحقيقة والحكمة تكون روحه دائما غير قلقة بعد موت الجسد، وستكون الحياة الاخرى مليئة بالخير.

الحجة الرابعة – الحجة من شكل الحياة

 في النهاية يعرض سقراط برهانه الأخير حول خلود الروح مبينا ان الروح غير فانية لأنها سبب الحياة. هو يبدأ ببيان انه "اذا كان هناك اي شيء جميل غير الجمال المطلق فهو جميل فقط بمقدار ما يمتلك من ذلك الجمال المطلق". وبالنتيجة، بما ان الجمال المطلق شكل، وكذلك هي الروح، عندئذ فان اي شيء له خاصية الامتلاء بالروح سيكون ايضا مملوءاً بشكل الروح. وبهذا سوف لن تصبح الأشكال هي الاضداد لذاتها. وبسبب ان الروح تجعل الجسم حيا وان المضاد للحياة هو الموت، يتبع ذلك "... ان الروح سوف لن تقبل بالنقيض الذي تجلبهُ دائما". بهذا يستنتج سقراط بان روحنا هي خالدة وموجودة حقا في عالم آخر.

الحجة من شكل الحياة، توضح ان الاشكال لامادية وثابتة وهي سبب جميع الاشياء في العالم، وان جميع الاشياء تشارك في الأشكال. فمثلا، الاشياء الجميلة تشارك في شكل الجمال، والرقم اربعة يشارك في الشكل الزوجي، وغيرها. الروح بحكم طبيعتها تشارك في شكل الحياة والذي يعني ان الروح لن تموت ابدا.

نقد وتعليق:

حوار فيدو والذي عُرف ايضا لدى القدماء (حول الروح) هو من اشهر حوارات افلاطون الى جانب الجمهورية والندوة . الحوار تُرجم لأول مرة من اليونانية الى اللاتينية من قبل هنري ارستيفوس عام 1160. واليوم يُعتبر احد اعظم اعمال افلاطون . الحوار هو رابع وآخر حوارات افلاطون يشرح الايام الاخيرة لسقراط. يجب التنويه الى التشابه بين وصف سقراط لمصير روح الفيلسوف بعد الموت والتصور المسيحي للعالم الآخر. الثيولوجية المسيحية تأثرت بعمق بالتفكير الافلاطوني ونقاشاته في الروح وما بعد الحياة.

لم تسلم حجج سقراط في خلود الروح من النقد خاصة حجته الاولى وحجة التذكّر. يشير سقراط الى الولادة والموت كحالتين متضادتين بنفس الطريقة التي يشير بها الى الاكبر والاصغر. ولكن لا يمكن لأحد ان يكون اكثر موتا او اكثر حياة بنفس الطريقة التي يصبح بها اقصر او اطول. هنا ربما يرتكب سقراط مغالطة منطقية equivocation)) يتغير فيها معنى نفس الكلمة اثناء الجدال.

وفي نظرية التذكّر يسعى سقراط لبيان اننا جئنا لنعرف الآن ما كنا نعرفه قبل الولادة. لكنه لم يوضح متى اكتسبنا هذه المعرفة قبل الولادة وكيف حصل ذلك. اذا كنا جئنا لهذه الحياة ونحن نعرف ما تعنيه المساواة، فمتى عرفنا المساواة اول مرة؟اذا لم توجد معرفة حقيقية من التجربة وكل ما لدينا اعطي لنا فطريا، فان التجربة من الحياة السابقة لا يمكنها ايضا اعطائنا المعرفة بالمساواة. ربما يفترض سقراط ان ذلك حصل عندما خُلقت روحنا اول مرة واكتسبت حياتها الاولى، فهي خُلقت ومعها المعرفة بالأشكال. لكن هذا يثير اسئلة اخرى لم يُجب عليها سقراط: متى وكيف بدأت الروح دورة الحياة والموت ؟ واذا كانت لها بداية فلماذا لم تكن لها نهاية؟

 

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) وفق نظرية المُثل او الأشكال يرى افلاطون اننا وقبل ان نولد بوقت طويل كانت ارواحنا تقيم في عالم المثل وكانت على اطلاع تام بجميع الحقائق، ولكن حالما ارتبطت روحنا بالجسد نسينا كل معارفنا واصبح كل شيء نتعلمه مجرد تذكّر للحقائق الاولى في ذلك العالم .ان نظرية المثل تسعى لحل مشكلتين اثنين، المشكلة الاخلاقية ومشكلة الدوام والتغيير. المشكلة الاولى: كيف يمكن للانسان ان يعيش حياة سعيدة وذات معنى في عالم ظرفي متغير وحيث كل شيء نربط انفسنا به يمكن ان يزول في اية لحظة؟ المشكلة الثانية:كيف يمكن ان يبدو لنا العالم بشكليه الدائم والمتغير؟ العالم الذي نفهمه عبر الحواس يبدو يتغير دائما اما العالم الذي نفهمه عبر العقل مستخدمين مفاهيمنا يبدو ثابتا ولا يتغير. اي العالمين اكثر واقعية ولماذا يبدو لنا بكلا الطريقتين؟ لحل المشكلة يقسم افلاطون الوجود الى عالمين :العالم المادي وعالم المثل .عالم المثل يستطيع الانسان ادراكه عبر العقل، هذا العالم دائم ولايتغير وهو الاكثر واقعية، اما العالم المادي او عالم التغيير هو مجرد صورة غير تامة لعالم المثل.

 

في المثقف اليوم