أقلام فكرية

واقع الفلسفة في زمن ما بعد الحداثة

ali almirhigلم تَعد الفلسفة اليوم بحثاً في ما بعد الطبيعة "الميتافيزيقا"، أي البحث في الوجود بما هو وجود للكشف عن علته الأولى، ولم يعد الفيلسوف اليوم شغوفاً ببناء أنساق معرفية مغلقة غي مُنشغل بالكشف عن تفسيرات "كليانية" أو شمولية، أي لم تعد الفلسغة أم العلوم كما يُقال، ولم يعد الفيلسوف هو ذلك الذي يُشّيد بناء رؤاه الفكرية وفق نمط الفلسفة التقليدية الغارقة في التجريد والباحثة عن إيجاد نظرية في الوجود والمعرفة والقيم (أخلاق، جمال، سياسة، وبعضهم يضع المنطق من ضمنها)، وإن نظرت لكتب ومؤلفات فلاسفة اليونان الكبار والفلاسفة المسلمين وفلاسفة العصور الوسطى، وحتى فلاسفة العصر الحديث، لوجدتها تسير بإتجاه التمذهب المعرفي القريب من مرامي التمذهب الأيديولوجي، تنبني وفق سستام معماري يبدأ من القاعدة لينتهي لقمة الهرم، والعكس يحصل أحياناً، حتى صار تعريف الفلسفة عندهم بأنها رؤية شمولية لتفسير العالم والحياة.

لكن هذا التعريف اليوم لا قيمة له وفق نمط التحولات المتسارعة في العلم (الرياضي والتجريبي الطبيعي في الفيزياء والبايلوجيا وما أحدثته ثورة الجينوم) أو في الثورة التقنية أو في الثورة المعلوماتية "الإنفوميديا"، فضلاً عن غيابها الواضح وعقم تأثيرها في التحولات السياسية المتسارعة في ظل غياب مفهوم الدولة القومية وحتى الوطنية وفق متطلبات النظام العالمي الجديد التي فرضتها "العولمة" التي فرضت رؤية سياسية وإقتصادية جديدة تتجاوز الفهم التقليدي لوجود الدولة لتنشئ مفهوماً جديداً هو مفهوم "الدولة الرخوة" كما يُسميه سمير أمين، تلك الدولة التي ينبغي لأنظمة الحكم التقليدي إدراك مراميها عبر إيجاد نظام سياسي وإقتصادي جديد، يعي أن هناك تغير واضح في النظر لمفهوم السيادة، ولمفهوم الخصخصة، تلك المفاهيم التي صار لا بد لدول أنظمة الحم الشمولي إدراكها ووضع إستراتيجيات جديدة لإستيعاب التحول، وقد إتضح ذلك جلياً مع "البيروسترويكا" كما طبقها غورباتشوف، التي أعلنت نهاية الحرب الباردة بين قطبي الرحى، (أمريكا وروسيا) والإعتراف بهزيمة بُناة النظرية الإشتراكية والإعتراف بإنتصار النظام الرأسمالي المؤمرك.

لذلك إنقرضت وتآكلت هذه النظرة التقليدية للفلسفة بطابعيها التقليدي والحديث، لينتصر تعريف فلاسفة ما بعد الحداثة لها في الفلسفة المعاصرة، بداية مع الفلاسفة الوجوديين الذين طمسوا نخبويتها وحطموا أبراجها العاجية للنزول بها من عليائها للبحث عما هو واقعي ويومي مُعاش، لا كما أنزلها سقراط ليكون محورها الأخلاق ببعدها المثالي "اليوتوبي" الذي يربط الفلسفة والمعرفة بالفضيلة، وإنما ببعدها المعرفي الباحث عن "الإنسان المتمرد" بعبار كامو، ذلك البعد الذي وضع لبناته في الفلسفة الحديثة نتشه،  مُستمداً جذوره من مقولة السفسطائيين وفيلسوفهم بروتوغوراس: "أن الإنسان مقياس الأشياء جميعاً، مقياس ما يوجد ومقياس ما لا يوجد".

وأجهز الوضعيون المناطقة على بقايا الفهم التقليدي للفلسفة، ليجعلوا مهمة ليست في البحث في الوجود وأصله، إنما مهمتها تقتصر على توضيح المفاهيم وتعريف الغمض منها وفق مقتضيات التجربة وما تحتمله اللغة الإنسانية ببعدها التداولي المحايث للواقع لا المفارق له، فالبحث والقول وفق رؤى تجريدية حالمة غي مُنضبطة لا بقواعد العلم العلم التجريبي والقناعة بوجود مفارق لوجودنا هو "كلام لا معنى له"، لأنه تجربة فردية ليس بإستطاعتنا إخضاعها للتحقق التجريبي، ولا يُمكن لنا التحقق من صدقها أو كذبها.

في ضوء هذه النقودات للفلسفة التقليدية ولمنطلقاتها في البحث عن اليقين المطلق وقناعة فلاسفتها بإمكانيتهم الوصول لتفسير شامل للوجود والمعرفة والحياة، صار حري بمن هو متفلسف أو فيلسوف أن لا يضع نفسه موضع السخرية حينما يدعي أنه فيلسوف ميتافزيقي.

في ظل هيمنة العلم وهيمنة السياسة والإقتصاد، صارت مهمة الفلسفة، جمع المعلومات والأفكار وتحليلها وتوضيح معانيها، وصارت تُلاحق العلم في تطوره لا تكون بديلاً عنه، إنما لتعطي تفسيراً أو نقداً للنظرية العلمية التي تتعارض مُعطياتها مع إنسانية الإنسان. لينبري الفلاسفة للدفاع عن الحقوق والحريات العامة التي ينبغي حمايتها مثل: حرية الرأي والمعتقد وحرية التعبير وحرية الإعلام والحرية السياسية وحرية المرأة والحريات الأخرى التي يكفلها دستور كل بلد.

إن الفلسفة الناجحة اليوم هي "الفلسفة الشريدة" بعبارة فتحي التريكي، لأنها غادرت موضوعها الأصل "الميتافيزيقا"، فصار لشرادتها هذه معنى إيجابياً من نمط آخر، نمط جعلها لصيقة بما هو يومي ومعاش من هموم ومشاكل تعتري مجتمعات، فإنفصلت عن موضوعها في "الإنهمام" بالحقيقة واليقين المعرفي للكشف عن الأصول الماوراىية للوجود، لتكون أكثر إلصاقاً بوليداتها ولواحقها، في موضوعات هي من صميم معترك الحياة اليوم مثل: فلسفة الدين وفلسة العلم وفلسفة السياسة وفلسفة الأخلاق وفلسفة القانون وفلسفة الاقتصاد وفلسفة الحرية.

ومهمة الفيلسوف في تمظهرات الأقوال هذه هي: النقد المستمر والتساؤل الدؤوب عن القيمة والجدوى الحقيقية الخادمة للإنسانية لكل نظرية للكشف عن "المسكوت عنه" فيها، وفضح خفي القول المستتر الذي لا يكشف عنه ظاهره، بما يجعل المجتمع فاعلاً واعياً في قبول أو رفض نظريات لواحق الفلسفة.

 

 

في المثقف اليوم