أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ما بعد الانسانوية والفضاء الثالث

ارتبطت الانسانوية بازدهار العلوم والفنون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من عصر النهضة،  حين جرى الارتقاء بجوهر الانسان بكل امكاناته الى مركز الصدارة، وتم النقاش العلني لمخزون العصور الوسطى وإيقاظ الحكمة اليونانية الرومانية القديمة. حتى يومنا هذا تشي النظرة الانسانية للمجتمعات المفتوحة للغرب الحديث بتقدمها المادي وانجازاتها الثقافية والحريات الفردية.

لكن ما الذي سيحدث للمركزية البشرية عندما يتم اسقاط جنسنا البشري من قاعدته بواسطة آلات اكثر ذكاءً منا ضمن الادراك المتواضع بان البقاء يعتمد على تقليل بصمتنا الضخمة على هذا الكوكب الهش؟ شرور هذين التطورين تدعو الى إعادة التفكير بما تعنيه الانسانوية في المستقبل القادم.

الزبون جرى استيعابه في الماكنة

الخلافات الاخيرة حول مخاطر وآمال الذكاء الاصطناعي الخلاق أثارت سؤالا فلسفيا جديدا حول اين ستنتهي السيادة التكنلوجية وأين تبدأ استقلالية الانسانية. هل ستصبح امكانات الذكاء الخارق التي اخترعناها هي سيدنا الحقيقي؟

"الحقيقة هي ان القوى التي تبدو تستعمل وتحكم التكنلوجيا هي في الواقع استُعملت وحُكمت بواسطتها قليلا او كثيرا دون قصد" هذا ما لاحظه جورجو اغامبين Giorgio Agamben فيلسوف السياسة الأحيائية  في عرضه في الندوة الافتتاحية لمعهد بيرجروين الاوربي في فيينا.

"كل من النظامين التوتاليتاري والديمقراطي يشتركان بنفس العجز في حكم التكنلوجيا. وكلاهما ينتهيان بتحويل نفسيهما من خلال التكنلوجيا التي اعتقدا بها انهما يستعملونها لأهدافهما. هو سأل لماذا يبدو صعب جدا وحتى مستحيل حكم التكنلوجيا؟ .

عودة الى منتصف القرن العشرين،  مفكرون بارزون شعروا بالقلق سلفا بان السيادة الانسانية ستكون في موقف اسوأ. في كتابه الصادر عام 1954"المجتمع التكنلوجي"،  ركز الثيولوجي والسوسيولوجي الفرنسي جاك ايلول Jacques Ellul  نقده ليس على أي معطى تكنلوجي،  وانما على "التقنية" ذاتها،  التي هو عرّفها كـ "كفاءة مطلوبة" – أي بناء من الوسائل النمطية لبلوغ محصلة مقررة سلفا  بهدف تحقيق "افضل نتيجة" . بالنسبة لأيلول،  "كل التقنية الشاملة هي في الحقيقة الوعي بعالم ميكانيكي". الاحتكار المبرمج للامكانيات يعطّل الانسان الفرد بسرقته من أي كفاءة بديلة.

قلق ايلول يقترب الى حد كبير من المفهوم الاخير ليوفال نوح هاراري Yuval Noah Harari لـ "البياناتية" dataism،  حيث الكون يُنظّم كاحتياطي دائم للبيانات الضخمة،  تتقرر قيمتها بالخوارزميات التي تعالجها لغايات محددة.

بالنسبة لزملاء ايلول مثل ايفان الش،  يرى ان التقنية تستعمر مزاج وايقاع الناس والنوعية العادية للحياة البهيجة من خلال التكنلوجيا الاجتماعية للمؤسسات بدءاً من التعليم الجماهيري وحتى المجمع الصناعي الطبي. هو توقّع نظاما ديمقراطيا بايولوجيا جديدا وشجاع من شأنه ان يحرم الافراد من الاستقلالية الصحية ويختزلهم الى نظام مناعة لا شخصي يُدار من قبل خبراء "من الرحم الى القبر". هو ايضا،   توقّع الفكرة اللاحقة لهارير الذي شك فيها بان معظم الناس يسلّمون الخصوصية لإله الصحة من خلال الترحيب بالاشراف المستمر على أجسادهم بواسطة الذكاء الاصطناعي.

بالنسبة لايلول،  التكنلوجيا التي قُصد بها تعزيز رفاهية وحرية الناس انما هي تكبّلهم بطريقة اخرى. كما هو صرح بذلك بسخرية لاذعة، "الزبون جرى امتصاصه في الماكنة"،  وهكذا فقد القدرة على العمل خارج النظام.

التولّد البشري هو تولّد تكنلوجي

يحاول أغامبن معالجة السؤال الذي أثاره عبر الزعم ان التكنلوجيا هي ليست خارجية لظروف الانسان. وانما،  هي تكنلوجيا تجعلنا اناسا. خلافا للمخلوقات الجسدية الاخرى التي تتكيف لبيئتها،  الناس وحدهم سعوا الى تحرير أنفسهم من الضرورة من خلال أدوات اخترعناها. يقتبس اغامبن من مفكرين اثنين حول الموضوع الذي توصلا فيه الى رؤى مشابهة .

لودويجك  بولك LodewiJk Bolkعالم تشريح هولندي في بداية القرن العشرين،  اعتقد ان الانسان اخترع الادوات ليعوّض ضعفه في الحياة البرية،  ولاسيما ولادة ذرية لاتزال في مرحلة جنين ما قبل النضج،  حيث الرضيع غير قادر على تجهيز ما مطلوب لبقاءه،  شيء لا مثيل له بين الثدييات الاخرى.

بالنسبة لبولك،  هذه الازاحة التكنلوجية تثبط القدرة الحيوية للتكيف وتنذر بأوقات مظلمة أمامنا. قبل ان تظهر كارثة المناخ في الافق،  هو حذر بانه "كلما تقدمت الانسانية كثيرا على طول المسار التقني، كلما اصبحت أقرب كثيرا الى النقطة القاتلة التي يصبح فيها التقدم  يعني الدمار،  وطبيعة الانسان سوف لن تقف أمام الهوة".

أغامبن ايضا يستخدم نظرية بول السبيرج paul Alsberg، الانثربولوجي الالماني الذي كتب " لغز الانسان"  عام 1930،  هو افترض ان "مبدأ التطور الحيواني هو تكيّف للجسد. مبدأ تطور الانسان هو تعطيل الجسم من خلال الوسائل الاصطناعية". وكما يقرأ أغامبن السبيرج،  "التعطيل ليس انتقاصا ابدا،  انه على العكس تماما،  تحرير للجسم من محدودياته الطبيعية. التحريرمن الجسم هو في نفس الوقت تحرير للجسم. خلافا للحيوان،  الانسان يستطيع ان يتحرر روحيا فقط لأن التقنية تحرره من قيود جسده. التعطيل والتحرر من الجسم هما مبدأ واحد يعرّف الانسانية ويشكل الارضية المادية لحرية الانسان".

بهذه الطريقة من التفكير،  وبعيدا عن التوجه نحو التدمير الرجعي، "الانسان محكوم عليه ان يصل من خلال التكنلوجيا والثقافة الى طموحه، كما يراه اغامبن، وكما فهمه بولك والسبيرك هو ان الانسان يصبح من خلال التكنلوجيا جزءاً لا يتجزأ من تطورنا. باختصار، "التولد البشري هو تولد تكنلوجي".

عتبة الانسان The human threshold

ان الصفة الخارجية لإختراع الأدوات للهروب من الضرورة هي ما يميز الانسان،  لكنها لا تستأصل في داخلنا خاصية التكيّف الداخلية للحيوان مع البيئة. "الحقيقة هي ان ما يجعلنا انسانيين لايمكن تقسيمه"،  حسب أغامبن. "تحوّل الانسان الى انساني،  ليس حدثا يتحقق مرة واحدة الى الأبد. انه عملية في تقدم مستمر،  حيث الانسانية والحيوانية لايمكن تجزئتهما. الحيوان،  الكائن الحي يستمر في الوجود في جسم الانسان،  ولا يمكن ابدا أنسنته كليا". بالنسبة لـ اغامبو،  "العنصر الخارجي سيميل للإعلان عن نفسه على حساب العنصر الداخلي. التكنلوجيا والثقافة ستأخذ شكل السلطة والهيمنة على الطبيعة وبالضرورة ستنتهي باستبدال ذاتها بالطبيعة". لكن ذلك ليس نهاية القصة.

"الانسان ليس شيئا تستطيع تعريفه مرة واحدة،  انه بدلا من ذلك عتبة بين الداخلي والخارجي،  بين الجسم والتقنية". في تلك العتبة هناك دائما انقطاع او توقف،  غير محدد. يستنتج أغامبا "فقط عند العتبة" "يمكن للاخلاق والسياسة ان يجدا مكانهما الصحيح،  الاخلاق والسياسة لن يسعيا ببساطة الى السيطرة على الطبيعة من خلال التكنلوجيا،  وانما للسيادة على العلاقة بين الطبيعة والثقافة،  بين الجسم والتقنية. انه في هذا الفضاء الثالث بين الانسان وغير الانسان،  فضاء الجسم والتكنلوجيا،  يجب ان نركز تحقيقاتنا".

الامتناع عن التحول

وفق هذا المنظور،  تضع كارثة المناخ الحالية نقطة توقف في الفضاء الثالث الغامبني حيث يصطدم السعي للتحرر من الضرورة من خلال التكنلوجيا بحدوده الكوكبية. في هذا الانقطاع،  الحيوان المتكيف في الانسان هو مجبر على الاستيقاظ لكي ينجو من عواقب التقنيات. بيتر سلوت peter SloterdiJk يسمي هذا الاستيقاظ بـ "مناعة مشتركة"،  غريزة الأنواع للبقاء، حيث الانسان يعيد التوازن بين عبقريته الخارجية وضرورات الوجود الجسدي على الارض.

كيف يمكن لتكيّف الأنواع ان يعمل لتحرير الفرد هو سؤال مفتوح لا يسهل الجواب عليه. في مقابلة أجرتها مجلة نومو Noemo مع جيمس لوفلوك في أيامه الاخيرة  تأمل في احتمالية "عصر جيولوجي " جديد للكوكب عندما يحصل الذكاء الخارق المنفصل عن الجسد على اليد الطولى عندما يتدهور المحيط الحيوي.هو فكّر جيدا بان الحضارة الانسانية سوف تُنظّم كعش الدبابير حيث كل الوظائف تتم بواسطة الخوارزميات للوصول الى فعالية منظمة في استعمال الموارد كشرط ضروري لتقليل بصمتها الكاربونية. غياب هكذا ترتيب لا يعيش فيه فقط  ما بعد الانسان الذي يحمل وعيه للغيوم طالما لا يمكن للمكائن ان تحمل العتبة الحرارية اكثر من العقول المجسدة.

الخيار الآخر لهذا السيناريو سيكون ما بعد الانسانية a post-Anthropocene التي يسميها سلوت متبعا خطى هايدجر بـ "الانسان الانساني" homo humanus – حالة من اليقظة الدائمة  من "العناية" تتوسط العلاقة بين الناس والتكنلوجيا والطبيعة لتقف حارسا ضد ما يصبح عليه الانسان "غير انساني،  خارج هذا الجوهر".

لكي نجد مكانا في الفضاء الثالث لـ أغامبن،  فان المبدأ الحاكم الذي يبدو ملائما جدا للانسان الانساني هو المفهوم اليوناني القديم Katechon او كبح المدرك "الامتناع عن ان تصبح" الذي يتجنب ربط الوجود  اما بوسائلنا او بالضرورة. البشر التكنلوجيون يجب ان يتعلموا احترام تجسيداتنا  ولكن لا ان نُسجن فيها والعكس صحيح.

***

حاتم حميد محسن

..........................

Post-Anthropocene Humanism, by Nathan Gardels, June 30, 2023

* الكاتب رئيس تحرير  Noema (مجلة الانسانيات والفكر الاجتماعي).

في المثقف اليوم