أقلام فكرية

الأفكار القروسطية تطوق مستلهمي الإرث الديني. . مايمكن استعادته من مشروع تيزيني

علي رسول الربيعييأتي هذا القول في سياق مراجعتنا لقضايا الفكر العربي المعاصر فنركز هنا علي ماتـفتح طروحا ت طيب تيزيني من ممكنات لقراءة التراث العربي الاسلامي من خلال مقولات الأستلهام التراثي والتبني التاريخي والعزل التاريخي بوصفها ذات فاعلية أجرائية وتحليلية، لكن بعيدا عن طريقة تطبيقه للمنهج المادي الجدلي، وكذلك عن خطاطة المادية التاريخية في تصنيف التاريخ العربي الاسلامي، وهـمه الايديولوجي في إيراد الشواهد علي وجود فكر مادي في التراث، والبحث عن فلاسفة مسلمين ماديين وجدليين قبل ماركس، وبعيدا، أيضا، عن الغائية التي يضع التراث في سياقها التي يسميها المرحلة القومية الناهضة، أذ لم يعد هناك مثل هذه المرحلة فضلا عن ان تكون ناهـضة ويتم قراءة التراث طبقا لمتطلباتها؛ أي بعيدا عن التصور الأيديولوجي لمرحلة غير موجودة في اللحظة الراهنة ولا يُـنبئ الافـق التاريخي بتحقـق شروط قيامها.

فالأمر يتعلق، أذا، بمدي توفر امكانية الأستفادة من توظيف أجراءاته المنهجية متمثلة في تلك المقولات لمعالجة قضية تجديد التراث الاسلامي أو طرائق استلهامه. قد يكون الاختلاف معه في تنزيل هذه "المقولات" علي حقول لا تشتغل عليها ولاتثبت لها فاعلية؛ تبقي لمحاولة تيزيني قيمتها في أجتراح مقولات لطريقة التبني والتجاوز التاريخي؛ ففي مراجعة لمعظم دعوات التجديد نلاحظ معظمها تـتحدث عن مايمكن تـبنـيًه من التراثِ وماهو غيرُ متوافـقُ مع روحِ العصرٍ وهو المـقصدُ عيًنه عنْدَ تيًزيني .

الجدلية التاريخية للتراث

تَطرحُ محاولةُ تحديدُ الموقع البنائيً البديًل للنظريةِ التراثيةِ نَفسِها - عند تيزيني - باسمِ (الجدلية التاريخية للتراث)، ومَهمتها استكشاف وتوطيد النظرية المعرفية والشرعية الأيديولوجية لذلك البديل من حيث هو نظرية تـنهيـجيًة تراثية ً. فتشكلُ الجدليةُ التاريخيةُ التراثيةُ الركيزةَ المنهجيةَ لدراسةِ التاريخِ في امتداده التراثي لاستخلاص نتائج نظرية متماسكة تبرز البحث التراثي والفكري علي أنه يمثل قضية اللحظة المعاصرة التي تضبط وتوجه خطوات الاختيار التاريخي التراثي، يظهر هذا الموقف عبر طريقين: الأول يتمثل بالأدوات المنهجية المعرفية المتاحة، والثاني يتضح بصيغة التو جه والهم الأيديولوجي .

يتـقصي البحثُ في هذاْ الوضعِ آفاقَ الوحدةَ الجدليةَ التاريخيةَ بين الماضي والحاضر من موقعِ الحاضرِ لأرساءِ الأساسِ للمشروعيةِ النظريةِ المعرفيةِ والأيديولوجيةِ التي يتمتعُ بها التراثُ العربي/ الأسلامي. فيكون والحالة هذه مستعيداً للتراث من موقع اختيار تاريخي تراثي يفرزُ منه العناصرَ الإيجابيةَ لاستلهامها، أيً يضبطُ ويحددُ في كلِ الأحوالِ ما يتطلب تبنيه واستلهامه وما ينبغي رفضه من التراثِ.

يمثلُ مفهوم التراث، بهذا المعني، الحدثَ المنصرمَ في بعده التطوري المتصل بالحاضرِ اتصالاً يقوم علي التداخلِ والتشابك بنيويا ووظيفياً، ويتولد نسيـج التراث وآفاقـه من السياق التاريخي الذي هو الحدث الاجتماعي في حالة انخراطه في مجري الزمن التالي عليه والمـمتد حتي اللحظة الراهنة؛ إذاً التراث متعاصر مع الحدث التاريخي لكن هذا الحدث لا يبقي في صيغته هذه في حدود الماضي لأمتلاكه بعداً تطورياً، فهو الماضي في بعده التطوري، والتراث هو الماضي في بعده التطوري موصلاً بالحاضر ومتداخلاً فيه؛ فإذا كان الماضي (التاريخي) مستمراً حتي حدود الحاضر، فإن (التراث) يجسد الاستمرارية من الماضي إلي الحاضر؛ وبذلك تكتشف العلاقة الجدلية بين خطي الاستمرارية واللاستمرارية بصفتها علاقة بين (التاريخ) و(التراث) ويقوم خط تداخل بين الماضي والحاضر، ويكون التاريخ هو حوار الماضي مع الحاضر عبر التراث، حوار تكون فيه زمام المبادرة للحاضر، لأن مسألة التراث ترتبط بالحاضر وما تكتسب من أهمية ودلالة إلا بالنسبة لهذا الحاضر، وبهذا يكون وعي الماضي وعياً بالحاضر وفهما للتراث وتحديداً للهويـة.

الاستلهام التراثي

ينطلقُ التوجهُ إلي التاريخِ والتراثٍ ماضياً وحاضراً من اختيار تاريخي تراثي يتمثل في شكلين إيجابيين: الشكل الأول، (الاستلهام التراثي) و(التبني التاريخي)؛ ففي التوجه إليهما استعادة اختيارية متبصرة بمقتضيات وآفاق المرحلة المعاصرة. وينصب علي العنصر النسبي فيهما، أي العنصر الذي تقترن قيمته الذاتية بالمقتضيات والموجبات والآفاق الأيديولوجية لـلمرحلة المعاصرة . إن (استعادة) الماضي تعني أن نستلهم الموقف الأيديولوجي من خلال ربطه بـموجبات المرحلة المعاصرة، وهنا تكمن نسبية الماضي في سياقه التراثي، لكن استعادة الماضي تسير إلي حدود أبعد حينما تـقرر بأن هناك عنصرا مطلقاً في ذلك الماضي ينبغي أن يوضع في مكانه من المرحلة المعاصرة؛ وهذا يعني أن ما تقوم به (هذه الاستعادة) يدخل في عداد (التبني التاريخي). فالتوجه إلي التراث ماضيا وحاضراً يعني ان نستلهم ذينك الموقفين من خلال الصلات والروابط بينهما كي يتم استكشاف واستقصاء جسور التواصل التراثي بين الحاضر والماضي.

والغاية بلوغ أمرين: ملاحظة واستجلاء المصائر التراثية والأيديولوجية لذلك التراث باوجهه وعناصره وإشكالاته المختلفة المتعددة أولاً، وتوظيف عناصر ومواقف معينة في سياق تعـميق وإغناء المرحلة المعاصرة ثانياً؛و أن ذلك يشتمل علي مهمتين، الأولي، ذات طبيعة معرفية استقصائية، والثانية ذات طبيعة ذرائعية (نفعية).

فعندما يتوجه (الاستلهام التراثي) إلي التراث يبـحث عن عناصره ومكوناتـه فإنه يقوم علي الأوجه النسبية منه ماضيا وحاضراً، ويتضح الاستلهام التراثي في إطار العلاقة الجدلية بين (الداخل والخارج) التي تظهر عبر بروز (الداخل) بصفته الحائز علي الأولوية في تحديد صعوبات وأشكالات هذه العلاقة، أما (الخارج) ــ متمثلا بالماضي القومي والعالمي ــ فيحوز علي الثانوية، ولكن ذلك (الخارج) لا يفتأ أن يتحول بعناصره المُستـَلهمة إلي (الداخل) حين ينصهر في ذلك الداخل، فتبرز حينئذ المحرضًات الأيديولوجية النظريًة كعنصر عضوي في (بنية) الداخل حيث تسهم في إغنائه وتعميقه .

أما الشكل الثاني، فيتعلق بالاختيار التاريخي التراثي، وهو فيما بين الذات العربية المعصرة من جهة والتاريخ والتراث من جهة أخري، فيمثل (التبني التاريخي)، هنا، موقفا منهجيا يهدف إلي سبر واستقصاء العناصر المحتفظة بصفتها المعرفية والتي ابانت بعد حدوثها التاريخي صحة تلك الصفة مما يضفي عليها بعدا أخرا وهو أنها مطلقة. فالتبني التاريخي لعناصر تاريخية يقوم علي أنها مهيأة للاستمرار ضمن سياق تاريخي آخر، وأن قيمتها الذاتية تاتي من المرحلة التاريخية التي نشأت وتبلورت فيها وكذلك من تبنيها من موقع الحاضر، فتكون رديفاً في عملية البحث عن طريق للنهوض المنشود .

التبنيً التاريخي

إن التبنيً التاريخي أداة منهجية معرفية تقوم علي ثلاث أسس: الأولي، أن العناصر المتبناة في مطلقيتها تحتوي علي وجه نسبي، يتمثل في ان هذه الأخيرة إذ يجري صهرها في سياق المرحلة المعاصرة فإنها تنطوي في سياق جديد يمنحها سمات جديدة أو يفقدها سمات قديمة، ويتضح هذا الأمر بمزيد من عمق الدلالة إذا وضعناه في موقعه من القانون الجدلي الآخر المتصل بالعلاقة بين (الداخل والخارج)، إذا فليس نسبية الاستلهام التراثي وحدها تحمل نقيضها الجدلي وهو مطلقية هذا الاستلهام بل كذلك مطلقية التبني التاريخي تنطوي علي نقيضها الجدلي الذي هو نسبية هذا التبني .

الثانية، تتعلق بالصلات التي تجمع بين (التبني التاريخي) و(الاستلهام التراثي)؛ فمثل هذه الصلات قائمة بين صيغتي (الاختيار التاريخي والتراثي) وهي في علاقة جدلية متبادلة بين الطرفين؛ تكتسب العناصر المستلهمة شخصية (عناصر متبناة) حين يتم فهمها طبقا لقوانين التطور علي صعيد المجتمع والإنسان، أما أن تكتسب (العناصر المتبناة) طابعا وقدرة استلهام فهذا واضح من طبيعة تلك العناصر؛ إذ إن هذه الأخيرة بحكم كونها صحيحة معرفيا ومطابقة ايديولوجيا تجسد ضمنا موضوع استلهام من قبل المرحلة المعاصرة .

الثالثة: ينطلق (الاستلهام التراثي) من (الحدث التاريخي) في (امتداده) التراثي النسبي، وأن (التبني التاريخي) ينحدر من (الحدث الاجتماعي) في تموضعه ونهائيته المحدودة بحدود خـط المتاخمـة بين الماضي والحاضر، فيكون (الاستلهام التراثي) و(التبني التاريخي) الحصيلة الإيجابية لـ(الاختيار التاريخي التراثي) ومن ثم فهما الوجهه النقدي الإيجابي لهذا الأختيار.

العـزل التاريخي

أما الخطوة الثالثة فتتعلق بـ(العزل التاريخي) بوصفه أداة منهجية تبـيًن العناصر الأيديولوجية (الوهمية) في أطار العملية المعرفية، والتي تحاول تعطيلها وظيفيا، وأن اكتشاف ما يدخل في (العزل التاريخي) من شأنه إغناء ذينك الخطوتين السابقتين بنيويا ووظيفياً. ايً العزل التاريخي لكل ما لا يُسهم في إغناءِ المرحلةِ المعاصرة ِ ومقتضياتهاْ، وهنا تَبرزُ ثلاثُ نقاط: الأولي: تنهض علي ان تلك النظرة التي يجسدها (العزل التاريخي) تجد مصادرها النظرية المنهجية في (الجدلية التاريخية التراثية ) ـ التي تقوم بضبط ـ التوجه المنهجي لتلك النظرة، حيث إن إنجاز صيغة (العزل التاريخي) لعناصر تاريخية وتراثية ليس أمراً عائما بل مسألة علي غاية من الدقة والانضباط المنهجي لتكوين صورة موضوعية حقيقية عن التاريخ والتراث تخلق موقفً واقعياً لممارسة ذلك (العزل).

الثانية: تنطلق من التوجهات والمقتضيات الأساسية لـ(المرحلة المعاصرة) بوصفها تمثل قاعدة الانطلاق لممارسة (العزل التاريخي)، فـ(العزل التاريخي) مسألة ذات أفق مسيس في اتجاهين، نظري ـــ معرفي يلح علي تقصيً واكتشاف الحقيقة الموضوعية ونظري ـــ نفعي يعلن عن هدفه في عدم امتلاك العناصر المعزولة تاريخياً.

الثالثة: تتصل بتجديد العلاقة القائمة سلبيا وإيجابيا بين (العزل التاريخي) والمرحلة المعاصرة، وأن السبب الأكثر حسما في مشكلة (العزل التاريخي) و(لاختيار التاريخي التراثي) هو طبيعة توجه المرحلة المعاصرة .

التراث ولأيديولوجيا

تتجلي الصعوبات بالكيفية التي يتم استلهام التراث أيديولوجيا مع الاختلاف المعرفي بين الماضي والحاضر، لاسيما وأن الفكر الإسلامي يتسوًر أنجازه المعرفي في الأطر الفكرية القروسطية؛ بالأضافة الي العلاقة بين المستلهم من التراث وكيفية توافقه مع مبادي الحداثة، ومثال ذلك في مدي امكانية تحقيق التوافق بين التراث السياسي الناتج عن التجربة التاريخية للأمة الأسلامية بوصفه جزء مكون اساس من كينونة التراث ومنجز الحداثة السياسية. ودور الاستلهام التراثي في تشكيل العلاقة بين الديني والسياسي؛ أيً أستلهام التراث بما يعـضًد عملية التحديث السياسي؛ فلم يعد السؤال يقف عند ماذا نتبني وماذا نعزل من التراث، ولكن أصبح كيف تـنخرط المجـتمعات " الاسلامية " في حداثة حقيقية تستجيب لمتطلبات المرحلة المعاصرة؛ كيف يمكن ان لايقع الأستلهام التراثي في التوظيف الايديولوجي ويقوم في الوقت نفسه بالكشف عن الايديولوجي الثاوي خلف نصوص التراث فيقوم بعزلها .

تتطلب العلاقة الجدلية بين (الاستلهام التراثي) و(التبني التاريخي) تعميق هاتين المقولتين لا بأصدار احكام قيميًـة بخصوص الصحيح والخاطئ منهما ولكن من خلال أختبار أجرائيتهما المنهجية وفاعليتهما التطبيقية؛ يدرك تيزيني أهمية ذلك، فيورد الأمثلة من الفلسفة الإسلامية، لكنه وفي مجريات التطبيق المنهجي لا يلتفت الي حقيقة تاريخية هي أن (ظاهرة الفلسفة الأسلامية) بحكم ارتباطها بأنظمة المعرفة القروسطية لم تعد لها إلا قيمة أثريًة وتوثيـقيًة صرفة، فلا يمكن تشغيلها حاضرا لاسيما وأن التفكير الفلسفي قد أنفصل عن اللاهوت وأن الميتافيزيقيا التقليدية قد انهارت أسسها وغاياتها.

تعني مقولة الاستلهام التراثي، التي يتحدث عنها تيزيني، استلهام الجوانب المشرقة من التراث العربي الإسلامي، لكنه يختزلها حيث لا تتمثل - عنده - الا في ما يَكشف عن وجود فكر مادي مقابل المثالي ليصل إلي تسويغ آخر، هو أن التراث العربي الإسلامي كله يندرج في التيارين الكبيرين المتصارعين: المادية والمثالية، أي طبقا لتصنيفات الخطاطة التجريدية للمادية التاريخية التي تعرضها الماركسية التقليدية. وهذا الطرح يعني أن تيزيني يضع تأويـلاته عن مادية الفلاسفة المسلمين نـتيجة لوقوعه تحت تـاثير جاذبية المنهج، في حين ظل حتي أولئك الذين كانوا في قمة العقلانية يتحركون في إطار ميتافيزيقا ذات ماهية دينية قروسطية. فليس في تاريخ الفلسفة الإسلامية من نستطيع أن نطلق عليهم حقيقة نعت (الفلاسفة المحض) لأن هذه الفلسفة رغم تتحدثها لغة " اللوغوس " في أحد مستوياتها الاً أنها ظلت غير منفصلة عن الفكر الديني أو علي الأقل عن الحساسية الدينية.

مجـال الأستلهام

ليس هذا الحقل المناسب لتطبيق ادوات الأجرائية او مقولاته في الاستلهام التراثي والتبني والعزل التاريخي لأسباب تتعلق بالجانب المعرفي واخري تتصل بالفلسفة الاسلامية ذاتها. ولكن يمكن تنبنيها في فقه التسامح - مثلا - حيث يمكن تطويره وفقا لمنطق العصر وروح الاسلام وفقا لطريقة التجديد السهمًي التي يتحدث عنها محمد الطالبي. وكذلك العزل التاريخي للفقه الذي يحدد مكانة " الذميً " الأجتماعية والسياسية " مقابل مفهوم المواطنة أو "حكم الردة " مقابل حرية الأعتقاد، والتبنيً التاريخي للنزعة الأنسانية في العصر الذهبي الاسلامي وتجسيدها الفعل التواصلي والجدل السلمي حول المشروعية الدينية، والحيوية الفكرية التي تعترف بالتعدد، والذهنية التي تقبل الاختلاف، ولو كان النقاش يدور في اطر فكرية ميتافيزيقية.

 

د. عليّ رسول الرّبيعيّ - جامعة ابيردين البريطانية

 

في المثقف اليوم