أقلام فكرية

أيّ مواطنة نريد؟

علي رسول الربيعييفترض التّصور الكلاسيكيّ للمواطنة الجمهوريّة سيطرة الدّولة على المجتمع السّياسيّ في مرحلة أولى على أنً يوحّد المواطنون أنفسهم مع ذلك المجتمع في مراحل لاحقة، لذلك يرى أرسطو كما روسّو أنّ المواطن معنيّ بأن يكون لديه حافز قويّ للمشاركة بفعّاليّة في الحياة السّياسية ليس فقطّ من أجل تحصيل المصالح الخاصّة وإنّما من أجل تحقيق النّفع العامّ.

هناك ثلاث وجهات نظر مختلفة في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة تناولت مفهوم المواطنة وهي: اللّيبراليّة، والجماعاتيّة ثمّ الجمهوريّة، وفيما يلي بعض ما تقدّم هذه الرّؤى الثّلاث من تّصوّر اعتراضات عن المواطنة.

وجهة نظر اللّيبراليّة

لا تنظر اللّيبراليّة إلى المواطنة أكثر من كونها مجموعة من الحقوق التي تلزم الدّولة بتنميتها والحفاظ عليها، والتي لا تلزم المواطنين بالمشاركة في النّشاط السّياسيّ لأنّ تلك المشاركة من خلال الرّأي ليست ضمانا للصّالح العامّ طالما الحقوق الأساس مكفولة لجميع أفراد المجتمع بالتّساوي، وطالما الأغلبيّة لا تنتهك حقوق الآخرين فلها أنْ تهتمّ بشؤونها.

فالمنظور اللّيبراليّ يعتبر التّصوّر الجمهوريّ للمواطنة ملائما بالأحرى لمجتمعات سياسيّة صغيرة يتقابل أفرادها وجها لوجه كأصدقاء، لكنه غير واقعيّ ولا عمليّ حينما يتعلق الأمر بمجتمعات كبيرة متعدّدة الطبقات متنوّعة الفئات تضمّ طوائف وإثنيّات مختلفة كالمجتمعات الصّناعيّة الحديثة حيث يتعذّر على النّاس أن يتّفقوا مسبقا على معنى محدّد للخير العامّ في ظلّ مصالح متنافسة غاية الطّموح أن يتمّ الوصول بشأنها إلى تفاوض سلس بطريقة منصفة. فمن غير المتوقّع أنً يخصّص النّاس وقتا كثيرا للمشاركة في هذه المجتمعات المعاصرة مع أنّ فضيلة السّياسة المنفتحة للنّظام الدّيمقراطيّ تسمح بتشكيل ائتلافات في أوقات مختلفة تمكّن الخاسر من أن يفوز في فرصة أخرى.

يستفيد التّصوّر الجمهوريّ من المفهوم الليبرالي للمواطنة عندما ينظر إليها هو الآخر باعتبارها مجموعة من الحقوق مضيفا فكرة ممارستها عمليّا لتظهر كسلوك يعطي المواطن هوّيّة توحّده مع المجتمع السّياسيّ الذي ينتمي إليه، فما يقترح من التزام بخدمة الصّالح العامّ عبر المشاركة الفعّالة لا يُفرَض على المواطن بطريق القسر أو الإكراه وإنّما بطريق الحجّة والإقناع. فما يوجد من عناصر ليبراليّة في الفكر الجمهوريّ المعاصر يشجّع على ألاّ تعاقب الدولة من يرفض المشاركة في الشّأن السّياسيّ لأن مؤازرة النّفع العامّ شأن تطوعيّ في المجتمع الحديث، فالحكومة تبني مؤسّسات للتّشاور ولكنّ أمر المشاركة في أشغال المداولات العامّة يعود لاختيار الفرد في النّهاية. ومن ثمّة يأتي الرّدّ الجمهوريّ على الاعتراضات اللّيبراليّة بالإشارة إلى أنّ الدّولة الأمّة تحمي الصّالح العامّ وتوفّر لمواطنيها فرصة المشاركة في تحقيق النّفع العامّ، وأنً الوطنيّة من شأنها صيانة التّكافل بين أعضاء تلك الدّولة مهما كان عددهم، وأنّه ليس ضروريّا اتّفاق هؤلاء النّاس على القيم التّأسيسيّة لكن عليهم في المقابل أن يتطوّعوا للسّعي إلى حلّ النّزاعات عبر مناقشة مفتوحة تمكّن من الوصول إلى مواقف متّفق عليها، وأنّه إذا كان لجماعة معيّنة أن تدافع عن مصالحها الخاصّة فليس لها أن تلجأ إلى تلك المصالح لتبريرها بل عليها أن تعرض أمام أولئك الذين لا يتّفقون معها أسبابا مقنعة فتصوغ حججها بلغة الثّقافة السّياسيّة، وهذا بالضّبط هو ما يمكن اعتباره مطلبا جوهريّا ومثلا عمليّا للنّجاح السّياسيّ في الدّولة المعاصرة.

إنً المشكلة هي ألاّ يترجم الاتّفاق حول مبادئ العدالة الاجتماعيّة إلى اتفاق بشأن عدالة فعليّة لتوزيع الثّروات والمنافع طبقا لمقدار قيمتها في المجتمع. فليس مفاجئاً أن تختلف مدركات أولئك الفقراء الذين هم في أسفل السّلّم الاجتماعيّ عمّن هم في ذروة الهرم الطّبقيّ من الأثرياء، ومع هذا الاختلاف نجد الفقراء والأغنياء يتّفقون سويّا على مبدأ توزيع الوظائف والمناصب طبقا للاستحقاق القائم على الكفاءة والأهليّة. الأسوأ أنً يتّفق النّاس على نظام غير عادل،وعندئذ لا يساعد الاتّفاق على مجرّد مبادئ العدالة الاجتماعيّة إذا ما حدث شيء يسمّم الفضاء العامّ.

وجهة النّظر الجماعاتيّة

استند مفكّرو الاتّجاه الجماعاتيّ إلى المواقف الأرسطيّة والهيغليّة في الرّدّ النّقديّ على الدّعوة للحقوق على أساس النّظريّة اللّيبراليّة لما اعتبروه إفراطا في التّأكيد على الفرد كقيمة، وتفريطا ذرائعيّا بالرّوابط الجماعيّة كالرّوابط العائليّة والدّينيّة عند التّأكيد على المنفعة في رسم العلاقات وتعديل خطط الحياة.

يشكّك الجماعاتيّون بقوّة عند الانتقال من "الأنطولوجيا" إلـى السّياسة فيما يفترض اللّيبراليّون للحكومة من مهامّ في ضمان الحرّيّات وما يزعمون للملكيّة الفرديّة من الحاجة إلى حريّة الاختيار. ويجادلون بحجّة ما للمهمّة السّياسيّة الأساس من دور في ترسيخ الوسائط التي تكبح تآكل الحياة الجماعيّة في ظروف ترتفع فيها وثيرة تشظّي العالم، ثمّ بضرورة مساندة وتعزيز أشكال الحياة الجماعيّة التي تضفي على العلاقات والوجود معنى حاسما لاسيما وأنّ الحرّيّات الأساس لا تتحقّق آليّا في المجتمع على الرّغم من ضمانها في الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة.

إنّ المشكلة الأساس من وجهة نظر الجماعاتيّة هي أن بناء المواطنة باعتماد التّصوّر الجمهوريّ يمثّل تهديداً قد يسحق كلّ الرّوابط، فالولاء للأمّة وفق منظوره من العمق بحيث لا يمكن أن ينافسه فيه ولاء لجماعة أخرى لأنّه يعتبر الأمّة مجتمع الواجب والالتزام الذي يولد النّاس به ويدينون له بواجب التّضحيّة والتّعاون. ويعني هذا في الممارسة من حيث المبدأ استعداد كلّ فرد للتّضحيّة والفداء في سبيل الوطن، ورغبته الأكيدة في مشاركة الآخرين في صناعة المستقبل وصياغة التّوجّهات السّياسيّة العامّة سواء من خلال المناقشة أو من خلال خدمة النّفع العامّ؛ هكذا وعلى هذا النّحو تعني المواطنة تفكيرا وسلوكا بطريقة تسعى لامتلاك مقياس كافٍ للفضائل العامّة، وهكذا يكون الوطن هو الرّابطة الأكثر أهمّيّة بالنّسبة للشّعب، له كلّ الأولويّة على جميع الرّوابط الأخرى في حال السّلم كما في حالات الصّراع.

لذلك لا يوافق الجماعاتيّون على هكذا تصوّر يعطي للسّياسة مساحة كبيرة تجعل المواطنة الفعّالة فوق كلّ الرّوابط الاجتماعيّة الأخرى، ومظهرا ضروريّا لحياة جيّدة وخيّرة لتبدو وكأنّها حقيقة شاملة. علما أنّ القليل من النّاس من لديهم النّشاط والوقت الكافيين للمشاركة السّياسيّة وفق هذا المنظور، وعموما فإنّ المبالغة في ربط المواطنة بالمشاركة تعسّف غير ملائم، فهناك مجتمعات كثيرة يميل النّاس فيها إلى تكريس حياتهم تقريبا لأنفسهم أو لشأنهم العائليّ ويتركون صناعة القرار السّياسيّ لنخبة متخصّصة تمثّل الرّوح العامّة للمجتمع، ومع ذلك تبقى مجتمعات ديمقراطيّة تحترم الإرادة العامّة بتطبيق القانون وحماية الحقوق وصيانة الواجبات.

وأخذا بهذه الاعتراضات يبدو المفهوم الجمهوريّ للمواطنة إشكاليّا بالنّظر إلى وضع الأقليات فيه، وباعتبار ميله الواضح والصّريح لصالح الثّقافة السّياسيّة للأغلبيّة المهيمنة على المجتمع خصوصا وأنّه لا يرتّب على هذه الأغلبيّة أيّ التزامات تجاه مطالب الأقلّيّات، كما لا يرتّب أوضاعها ضمن المبادئ والأطر القانونيّة الموجودة. فوضع العلمانيّين في دولة دينيّة عن سبيل المثال يفرض عليهم صوغ مطالبهم السّياسيّة ضمن ثقافة الأغلبيّة والعكس صحيح.

والخلاصة أنّ الميّالين للمشاركة السّياسيّة يفضّلون هذا الشّكل الضّعيف من المواطنة الجمهوريّة الذي يُعرِض عمّا تفرض المسؤوليّات المشتركة الأخرى من التزامات عند تقرير المسائل الكبرى. بل إنّه يبقى مقبولا من وجهة نظر الجماعاتيّين أنفسهم لتبرير تنافس الالتزامات المشتركة في حالات الصراع.

نحو تأهيل ملائم لبناء الوطنيّة على أساس المواطنة الجمهوريّة

يستند تصوّر الوطنيّة بالاعتماد على مفهوم المواطنة الجمهوريّة إلى عنصرين اثنين:

أوّلا: يستند إلى نزعة سيكولوجيّة يشكّل عبرها روحا عامّة تدفع الفرد إلى تقديم الرّغبات الوضعيّة على مذبح الرّغبات الرّفيعة وإعطاء الأسبقيّة للخير العامّ على حساب المصالح الشّخصيّة بحجج سياسيّةً مطابقة للمفهوم الجمهوريّ بهدف الوصول إلى صياغة مشتركة لقرارات منسجمة، مسؤولة ومتّفق عليها.

ثانياً: نزعة سلوكيّة تعرض الآليّات التي يتمّ عبرها تكوين مواطن فعّال يُقبِل بإصرار ودون تردّد على المشاركة في الشّأن العامّ وفي تقرير القضايا الكبرى والمصيريّة.

ولعلّ التّصوّر العمليّ المرغوب لبناء وطنيّة على قاعدة المفهوم الجمهوريّ بالنّسبة لي سيحتفظ بالعنصر السّيكولوجيّ ويطرح نظيره السّلوكيّ لانعدام الجدوى مادام أكثر المواطنين يمتلكونه كروح عامة أو نزعة وإن بشكل كامن يجعلهم غير فاعلين في الشّأن السّياسيّ. سيقضي أغلب النّاس وقتهم في مواجهة عنف اليوميّ، واستجابة لضرورات العيش والسّعي وراء المصالح الخاصّة، وإنجازا لما تفرض الحياة الاجتماعيّة المشتركة في أبعادها غير السّياسيّة من واجبات. والمشاركة الشّعبيّة في البناء العمليّ لمفهوم الوطنيّة ستحصل اتّفاقا أو عرضا بواسطة الرّوح العامّة للمواطنة، ويمكن ملاحظة هذه العرضيّة بالملموس في أغلب المجتمعات الحديثة لأنّها تلائم الدّيمقراطيّة في سياق اللّيبراليّة المعاصرة لذلك تأخذ بها الاتّجاهات الواقعيّة بما فيها الاتّجاه الجماعاتيّ لاسيما وأنّ فكرة المواطنة الجمهوريّة لا تلائم الدّولة الأمّة من وجهة نظر الواقعيّة اللّيبراليّة لأنّ السّياسة اتّفاقات وصفقات بين جماعات مصالح، أكثر منها تشاور أو تعبير عن روح عامّة.

لذلك تجد الاتّجاهات الواقعيّة لا تعطي أهمّيّة لمسألة الرّوح العموميّة لأنّ اهتمامها الرّئيس متعلّق بالحقوق الأساس وبالدّفاع عنها ومواجهة أيّ تهديد قد يطالها من قبل النّزعات التّسلطيّة أو الدّولة الشّموليّة. ولعلّ الذي شهد ويشهد العالم المعاصر من وقائع وأحداث يثبت أنّ المواطنين يعبّرون تلقائيّا عن الاستعداد للدّفاع عن دولهم والتّضحيّة في سبيل رموزهم الوطنيّة، والحرب العالميّة الثّانية أبرز مثال على ذلك.

ولذلك أيضا لا تبحث مسألة الرّوح العامّة مادام أغلب المواطنين لا يشاركون في قضايا الشأن العامّ بحسب ما جرت به العادة إلاّ من أجل اهتمامات معيّنة، لكنّها تستثمر هذه النّزعة السّيكولوجيّة وتوظّفها بقوّة في الظّروف الاستثنائيّة وكلّما دعت الحاجة لذلك. ويعبّر هذا وإن بشكل ضمنيّ عن مرغوبيّة صياغة التّصوّر الجمهوريّ صياغة أكثر عمليّة وواقعيّة على أرضية ليبراليّة محضة.

تجذب فكرة الدّولة الأمّة الجماعاتيّين لتأكيدها الواضح على الرّوح العامّة للمواطنة باعتبار أنّ الوطنيّة محور ملهم يكسب النّاس هوّيّة تشحذ ولاءهم للدّولة وتدعم لديهم حوافز خدمة الصّالح العامّ في عالم لا مكان فيه للسّلبيّة، وفي لظى عولمة تلزم الحياة السّياسيّة بخوض معارك التّنميّة المستدامة واستحقاقات التّقدّم على أساس المواطنة، ومن خلال تعليم وطنيّ وبرامج للخدمة المدنيّة التي تدعم الرّوابط المشتركة الأخرى بين جميع الفاعلين ومكوّنات المجتمع.

 

د .عليّ رسول الرّبيعيّ/ جامعة أبيردين البريطانية

 

 

في المثقف اليوم