أقلام فكرية

غادامير فيلسوف التأويل المعاصر يواجه الأحكام المسبقة

علي رسول الربيعيتأتي أهمية الظاهرة التأويلية في توحيدها بين كل من ذلك المعني المجهول الذي نتوق لفهمه وهذا الذي نفهمه. فتظهر أهمية ودور التأويل في المواقع التي نواجه بها كل ما هو لامفهوم بذاته وبحاجة الي تفسير.

كان تأويل القرن التاسع عشر يقوم علي أن آفاق عالم المفسر تعمل علي تشكيل الجهود التفسيرية للتراث، لكنه لايعد هذه الآفاق ذاتها كمواضيع للفهم فقط انما عوامل لظروف حدوث الفهم. كذلك لم يكترث لمسألة البعد الإنعكاسي للفهم، مما ينتج عن ذلك رؤية بمنظور أحادي مرتبك للفهم. "غادامير" (فيلسوف التاويل المعاصر) في مهمته التأولية الكبري لاحظ أن هناك نقلة نوعية في هذا الإتجاه لدي" شلايرماخر" (أحد كبار فلاسفة التأويل في العصور الحديثة)، كان لها تبعات لاحقا في ما يتعلق بمشكلة الفهم. فلم يكن التأويل لدي كل من سبق "شلايرماخر" الا رد فعل علي تعصي عملية الفهم وحسب؛ أذ أنه مجرد فهم بسيط لموضوع النص يكون فيه التاويل عضيدا تربويا في حالات أستثنائية يتعذر فيها الفهم لسبب ما. لكن مع شلايرماخر لم يعد التاويل يدور عن مجرد اللافهم، انما أصبح يعتني بالسابقة الطبيعية لسوء الفهم الناتجة عن التغيير في معني الكلمة ورؤي العالم، كما أن هناك فترة بين زمن التأليف وزمن التفسير، وعليه فأن معني النص - لدي "شلايرماخر"- ليس هو ما يمدنا به النص من معني معروف لدينا، أنما هو المعني الذي لايمكن أن نصل اليه الا بإعادة ترميم وتركيب ظروفه التاريخية وحيثياته التي وجد وشكل بها؛ أي أن أستيعاب المعني يتم من خلال ترجمة نقدية منهجية مسؤولة.

علم تأويل منهجي

أن تشخيصا من هذا النوع نجده متضمنا في أعمال الفيلسوف الالماني" دلتاي" الذي كان يصبو الي إقامة علم التأويل علي أسس منهجية، أذا ما طبقت سيصبح بأمكان العلوم الإنسانية أن تدعي لنفسها مستوي من الدقة والصرامة يناظر ما للعلوم الطبيعية من مستوي. أن كلا من شلايرماخر ودلتاي قد عرفا المعني في النص وفقا لما أسمياه بالنزعة الموضوعية . وتكون مهمة الفهم هي أحياء "علوم الروح" في العالم، إضافة الي فهم الحدث التاريخي والمؤلف نفسه. فالفهم - علي حد تعبير دلتاي- عنصر مهم للتحول الذاتي أو لمشروع متخيل يضع المفسر بموقع يتجاوز فيه تلك المسافة الزمنية التي تفصله عن الحدث أو النص ليصبح معايشا له. أن زمن الحاضر لدي كل من "شلايرماخر" و"دلتاي" لايمتلك الا قيمة سالبة، حيث ما يتوجب علي المفسر فعله هو التعالي عن كل ما يدخل في عداد الحكم المسبق، وكل أرباك يحجب الفهم، ليكون الفهم - حسب نظرية دلتاي- هو الفعل المتاتي من الموضوعية المجردة والمنزهة عن كل ماهو مسبق، ويأتي ذلك من قدرة المفسر علي اقصاء آفاقه المعرفية الخاصة. لكن في الحقيقة؛ أن" شلايرماخر" و"دلتاي" قد صرفا النظر عن حقيقة تاريخية الإنسان ومحدوديته؛ وأنهما يعبران عن حنين ماضوي تجاه مثالية "ديكارت" وعصر الأنوار الذين سبق لهما وناقشا مسالة حكم الموضوع لنفسه وحيازته لاستقلالية تفصله عن كل ماهو تاريخي وتخلصه بالتالي من تبعات الحكم المسبق. ولم يعد ما علي المفسر فعله الا نفي الحاضر علي انه بُعد في الماضي.

وتجاه هذا الاستلاب المنهجي تنهض نقدية غادامير من خلال السؤال: هل يمكن للمفسر أن يتجاوز موقعه اللحظي لمجرد الرغبة في ذلك؟ فيجيب ان هذا السؤال يـُطرح في ما إذا كانت تاريخية الانسان حدثا عرضيا، أما وهي شرط انطولوجي فالأمر مختلف عندئذ، فآنية الانسان وتناهيه حالة تكوينية وسابقة الحضور في اي عملية تاويلية. يتناويل "غادامير" أرتباط الانسان بحاضره وبأفقه التاريخي علي انها معطيات أولية للفهم وليس عوائق له ينبغي تجاوزها. أنها احكامنا المسبقة التي لاتقطعنا عن الماضي، انما هي نقاط ابتداء تفتحه لنا وتطلعنا عليه، إنها ممكناتنا الايجابية للفهم. التاريخي اذا ما قورنت بمحدودية الانسان، أن تاريخية وجودنا متضمنة لأحكامنا المسبقة، كما أنها والمكون قابليتنا الأبتدائية في التجربة، وأن الحاضر يشكل الماضي بطرق لامتناهية؛ حيث يقول غادامير " أن تكون تاريخي لايعني ان تُستهلك بالمعرفة الذاتية". فلا يدهشنا أن تكون فكرة غادامير عن الحكم المسبق، أحد أكبر المفاهيم المثيرة للجدل في فلسفته؛ التي تصرح بتناهي ومحدودية الفهم لتستعرض دوره الإيجابي في كل معني تحولي أنساني. الماضي لدي غادامير يمتلك في طياته سابقة لظاهرة الفهم لطالما أفتقدت عند الفلاسفة ممن سيطروا علي المشهد الفلسفي قبل هايدغر. لايمكن تحجيم دور الماضي وتحديده بوصفه عنصر أضافي علي النصوص والاحداث التي تحتاج الي تفسير. أن مثل الماضي كمثل الحكم المسبق والتراث فكلاهما معطي أولي علي الأرضية التي يقيم فيها المفسر حينما يمارس عملية الفهم. وترجع هذه الفكرة الي دعوي "الكانطيين الجدد" و"الحركة التاريخية" في أواخر القرن التاسع عشر التي اكدت علي تاريخية ونسبية كل التعبيرات الانسانية التي وصلتنا من الماضي، لكنها وقفت عاجزة أمام معضلة تاريخية المفسر مع تاريخية الأشياء.

التصور المعياري للمعرفة

على الرغم من كثرة الاختلافات بين الفلسفات الا أنها جميعا التزمت تصورا معياريا للمعرفة العلمية، شكل بدوره حاجزا امام أدراك الدور التكويني للمفسر نفسه في عملية الفهم ومن أقامة وعي محايد خال من الحكم المسبق يضمن المعرفة الموضوعية للمعرفة. فكانت مشكلة التاويل علي ما يصفها غادامير: النتيجة الحتمية لهذا التكييف وهذا الاقصاء المشوه للتجربة الذاتية، وهذا ما حصل فعلا في التفسيرات التاريخية والجمالية. وهنا يتضامن "غادامير " مع تقويض "هايدغر" لمفهوم الموضوعية في الفكر الغربي. مايريد غادامير تاكيده هو: أن المثال الاساسي لهذه المعرفة قام بأقصاءالمكونات التاريخية للوعي الذاتي، لكن هذا بحد ذاته حكم مسبق طاغ لطالما سيطر علي عقول الفلاسفة منذ ديكارت. ويري غادامير تجاهل آنية الانسان يعني تجاهل الخصائص الآنية للتفسير . لقد كان لهذه الفكرة الأثر الفعال على نظريته التأويلية حيث تجاوزت كل نظريات التأويل التي تناولت الفهم ككيف تكراري وتخلَص من النيات والأحكام المسبقة. أن كل نظريات التأويل التي تعاطت مع الفهم علي أنه عملية لإعادة الانتاج وليس عملية منتجة تتضمن ذات الموقف التأويلي تجاه المفسر.

أن ماقام به "غادامير" هو مخالفته للآراء السابقة من خلال تطويره تصورا خاصا للفهم يأخذ بنظر الاعتبار المشاركة الحاضرة للمفسر ودوره الاساس في التاريخ. فالفهم ليس إعادة تركيب فقط بقدر ما هو تأمل يتضمن الماضي في الحاضر. وفي كل المحاولات الجادة التي تصبو لعناق الماضي بذاته وبمعزل عن كل ما سواه يبقي الفهم ابتداء حالة تأمل وترجمة لماضي الزمن في الحاضر. وهكذا ينظر غادامير الي التاريخ بوصفه الاستمرارية التي تستوعب الفعل الموضوعي والاشياء؛ ويكون الفهم ذلك الحدث وتلك الحركة التاريخية التي ما أعتبرت النص ولا المفسر أجزاءا قائمة بذاتها وتحكم نفسها. وعلي هذا الاساس لايسعنا أعتبار الفهم بحد ذاته فعلا من نتاج الموضوعية، أنما هو ذلك المدخل للحدث التحولي والذي يجتمع فيه كلا من الماضي والحاضر تأمليا، وهذا -حسب غادامير- مانجد له مصداقا في النظرية التاويلية.

الفاصل بين المفسر ومادته

أنصبت مهمة التفسير عند مدارس التأويل القديمة علي ملأ ذلك الفاصل التاريخي بين المفسر ومادته موضع التفسير لكنها لم تفلح في ذلك لأنها لم تنظر اليه بوصفه أستمرارية لكل من التقاليد والتراث في التأمل الحاضر الذي يحفظ للماضي وظيفته المستمرة في تشكيل أفق المفسر. فالماضي ليس مجموعة اشياء نريد التخلص منها أو أستنساخها، أنما هي - حسب وصف "غادامير"- داخلة بفاعلية في التاريخ الحاضر الذي يفتح أفق الحوار ويجعل الفهم ممكنا بين المفسر الجديد والنص القديم. أن كل من الذاتية والاحكام المسبقة التي تتصف بها مواقفنا التأويلية هي نتاج لحركة التراث فينا، نتاج تأمل الأوائل للنص، أنها تشكل صيرورة تدخلنا بهذه الفعالية التاريخية الحاضرة . وعليه ليس من المبالغة القول بأن مركب وجودنا هي أحكامنا المسبقة . قد يتسني لنا احاطة كاملة بأحكامنا المسبقة وقد نصححها اذا ما أصغينا لما يريد النص قوله لكن هذا التصحيح لايمكن اعتباره حالة متعالية عن كل الأحكام المسبقة عند ادراكنا للنص والحدث في ذاته. أن المحاولة التصحيحية ليست أكثر من أعراض تاريخيتنا، كما أنها محض انبعاث في فاعلية التاريخ الحاضر . هي أفاق ما وأن تحركت تبقي علي الافتراض المسبق لنهائية ومحدودية الفهم. أن الوعي النقدي الذاتي للمفسر يفرض عليه استيعاب شئ من استمرارية قوة التاريخ وفاعلية الحاضر في عمله، فالوعي بفاعلية التاريخ حالة لامفر منها.

يفقد المفسر، طبقا لرؤية "غادامير"، أمتيازه الذي منحته إياه فلسفات التاويل السابقة، ويبدو اشبه بحركة نسبية في حياة التاريخ الحاضر؛ ويصبح الفهم، هنا، خلقا لافق استيعاب تُفسر به الاحداث وتٌصهر برؤية حيَة للموضوع والمعني؛ وهي لحظات خلاقة - كما يراها "غادامير"- أذا ما انتهزها المفسر فسوف يستوعب أفق الحاضر ونختبر احكامه المسبقة؛ كذلك يتعايش مع الماضي وفهم التراث، حيث لايمكن لأفق الحاضر ان يتشكل بمعزل عن الماضي ويكون الفهم ربط لتلك الآفاق الموجودة بذاتها. أن كلا من الماضي والحاضر ينموا مجددا بقيم حية لاتعزل الحاضر تماما ولا الماضي كليا. فالفهم حالة أرتباط تزودنا بكل تحول يحصل في المعني.

لقد نجح "غادامير" في تغيير رؤيتنا لطبيعة الماضي من خلال إعادة النظر في وظيفة آفاق الحاضر بالنسبة للمفسر، أذ تظهر علي انها أستشراف لكل تضاعيف وأحتمالات المعني وليس استجوابا سلبيا للأشياء، وكمثال علي ذلك؛ فهم هايدغر للأخلاق النيقوماخية- الأرسطية، ومقال لوثر حول الرومان، والأعمال ذات التحليل الظاهراتي عند غادامير نفسه. لقد تناولت النظرية التاولية، التي حاول كلا من" شلايرماخر" و"دلتاي" بناءها عن النص بوصفه رمزا لشيء ما ثاو خلفه (مثال ذلك شخصية المؤلف الخلاقة أونظرته للعالم)، وهذا ما لم يوافق عليه غادامير، حيث كانت عنايته بموضوع النص نفسه، أي ما يفضي به الموضوع للمفسر. وتطبيقا علي هذا، النصوص الأدبية التي تتضمن مثالا للمعني منفصل عن الحيثيات التاريخية والسيكولوجية لمصدرها، فالأدب يحضر معناه في كل لحظة نقرأه فيها، ولكي نفهمه لا يتطلب منا العودة الي الماضي انما المشاركة الحاضرة مع ما قيل. أذن فالمسالة لا تعني العلاقة بين القارئ والمؤلف انما هي المشاركة التي في التواصل الذي يقدمه لنا النص، فحيثيات فهمنا لما يريد النص قوله مستقلة عن تصورنا للتراث وعن تفسيرنا التاريخي له. تتشوهه الحالة الحوارية لدي المفسر عندما تكون عنايته بالمؤلف وليس بالنص ذاته، عندما ينظر الي ما كان عليه المؤلف ويتجاهل ماكتبه. فيبدأ الحدث التأويلي عندما ينفتح المفسر تجاه النص؛ أي حينما يصغي له ويسمح له بتأكيد نظرته الخاصة به، وهي ها هنا بالضبط محاربة الشخص الآخر من خلال الاصغاء الي رؤيته لا الي ذلك التشويه المنهجي القبلي الذي قالت به نظريات التاويل السابقة. أما الأحكام المسبقة للمفسر (آفاقه الحاضرة) فتعالج بالوصول الي وعي ذاتي نقدي، يقيم مواجهة مع آفاق الآخر مما يمنحه القدرة علي استيعاب الأفتراضات والتي ستبقي مخفية عنه لو لم تكن هذه المواجهة. أن كل من استيعاب المفسر لتاريخيته ومحدوديته ووعيه بالتاريخ الحاضر يجعله علي عتبة جديدة من الأحتمالات، وهذا هو مهد الفهم الحقيقي.

أن مايحرك النص هو السؤال الذي يتضمنه والباحث عن أجوبة لدي المفسر. أن عملية التقاط سؤال النص تستثير المفسر الي فتح الحوار التأويلي. فالسؤال الخلاق قد يفتح او يغلق العديد من الأحتمالات لكل من النص والمفسر، حيث يتم فهم النص من خلال تحديد موقع السؤال فيه، وهذه العملية تجعل المفسر أمام حالة من التعالي المستمر علي الأفق التاريخي للنص مما يمكنه من أدماجه بآفاقه ويعيد صياغته. فأن يفتح المفسر أمكانية السؤال في سياق محاولة تأويل النص ذلك يعد من دواعي السعة الدلالية التي تدفعه لولوج الحوار الذي قد يجرفه الي أبعد من مواقعه تجاه اللغة والنص، ومجريات عملية الفهم أيضا؛ وبهذا يكون المفسر مشغولا بالسؤال حيث يكون هو والنص مقادين بالموضوع المهيمن عليهما.

لقد كانت جهود "غادامير" التأويلية موجه الي تحويل الانتباه في الحوار بعيدا عن تقنية وطريقة التفسير التي أفترضت الفهم كنتاج قصدي للوعي الذاتي، ثم توضح الفهم وتشرحه بوصفه حدث- عرضي تحولي- موضوعي. وعرضي تعني، هنا، في كل لحظة حية للفهم يكون كل من المفسروالنص أجزاء ثانوية، أما تحولي- موضوعي فنتيجة لما يحصل للفهم من تأمل وتحول للماضي والحاضر، ومن تعالي علي سلطة المفسر. أعتبر غادامير اللغة هي الوسيط الذي يخترق فيه الماضي الحاضر وبالعكس؛ أما الفهم فهو صهر لتلك الآفاق في العملية اللغوية . أن كل من هذين التصورين للغة والفهم لما لهما من تأثير علي تحول المعني فلا يعدا مجرد عمليات منفصلة، أنما هما شئ واحد؛ فالموضوع، واللغة، والواقع متصلة بعضها البعض، وحدود فهمنا مرتبطة بحدود لغتنا، وعلي هذا فلا عالم قائما بذاته بصرف النظر عن حضوره كموضوع في لغة ما.

والحقيقة أن هذه القوة الخلاقة لمفاهيم للغة، والحاضر، والحكم المسبق، والفهم في نظرية غادامير التأويلية فتحت الباب أمامه ووضعته في أعلي مراتب المثال العلمي لكل ماهو موضوعي ولامتحيز في التفسير.

 

د.عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم