أقلام فكرية

الأفلاطونية العربية.. دراسة فلسفية لـ"ثيولوجيا ارسطوطاليس"

علي رسول الربيعيتعد الفلسفة الافلاطونية المحدثة المصدر الأهم لأفكار ما يسمى بالافلاطونية العربية المحدثة. لقد كانت في ما عرف بـ"ثيولوجيا ارسطوطاليس"، وهي النسخة المعدلة لتاسوعات افلوطين التي نسبت خطأ لارسطو، ذات تأثير كبير على طريقة تفلسف وتفكير الفلاسفة المسلمين من الكندي الى ابن سينا وما بعده.

يقدم كتاب "الافلاطونية العربية" لبيتر أدمسون الصادر عن دار ""دك ورث" دراسة للتغيير والتحول اللذين خضعت لهما اعمال أفلوطين عندما نقلت الى اللغة العربية. لقد انتجت مقاربة المترجم لـ"ثيولوجيا ارسطوطاليس" والتي تعود لافلوطين فاصلاً تاريخياً حاسماً في مسار وتوجه التفكير الفلسفي العربي ـ الاسلامي. فقد حاول المترجم ان يجعل الفلسفة الافلاطونية المحدثة منسجمة مع مبادئ الدين المسيحي والاسلامي، كذلك مشابهة لفكر ارسطو الاصلي. جاء كتاب "الافلاطونية العربية" كأول دراسة مفصلة لنص "ثيولوجيا ارسطوطاليس" حيث كرس لفهم افكار وحوافز المترجم في تعزيز صورة معينة، تلقى من خلالها الفلاسفة ولقرون طويلة الفكر الاغريقي.

عند قراءة أي كتاب يتعلق بتاريخ الفلسفة العربية الاسلامية كثيراً ما يطالعنا ذكر لما يسمى "ثيولوجيا ارسطوطاليس" التي كما ذكرنا هي الرواية العربية لنص افلوطيني أُنتجَ في القرن الثالث الميلادي، حيث تأتي أهميته لما يسد من فجوة في المنظومة الارسطية. انه المصدر المباشر لافكار ومفاهيم الافلاطونية المحدثة في العالم الاسلامي التي تقدم عقيدة شاملة حول الخالق وعن الايمان الاخروي. إن التقسيم الممكن للخطأ في عزو هذا النص لارسطو، هو انه جاء من مقدمة المؤلف للثيولوجيا حيث عرضها على اساس انها النص المكمل للمنظومة الارسطية غير المكتملة، لكن الناسخ اللاحق اعتبرها جزءاً من اعمال ارسطو. ويرى مؤلف كتاب "الافلاطونية العربية" ان اهمية دراسة نص "الثيولوجيا" لا تأتي فقط من جانب كيف نسب تاريخياً لأرسطو ونتائج تأثيره على تقاليد ممارسة الفلسفة لاحقاً، ولكن كيف، في الواقع، اصبح افلوطين ارسطو المنحول، وكيف قدمت تاسوعاته. لقد ضخمت اهمية بعض اغراض النص الاصلي لافلوطين، ونسجت مع بعض افكار فلاسفة الاغريق في بنية التاسوعات وقدمت كموقف فلسفي له موقعه الخاص في تاريخ الفلسفة. وشرع الباحث في انجاز دراسته عن هذا النص الافلوطيني المعدل والمكيف والمنسوب خطأ لارسطو لسببين: الاول، كشف التغيير الذي ادخل عليه عند انتقال فلسفة افلوطين الى اللغة العربية، حيث كان هذا التغيير هادفاً وذا مغزى فلسفي وتاريخي. وذلك يعني لكي نفهم ذلك المغزى وفلسفة ذلك الشخص الذي قام بعملية التغيير والتعديل في النص لا بد ان ننظر في فكره ككل. الثاني، كانت "الثيولوجيا" المفتاح الاساس للعديد من الفلاسفة المسلمين اللاحقين من الكندي حتى الفارابي وابن سينا ليصل لاحقاً الى مدرسة الاشراق. فيرى الباحث اننا نقوم بتفسير خاطئ لهؤلاء الفلاسفة اذا افترضنا ان انشغالهم بـ"الثيولوجيا" فقط كان نتيجة للقاء غير مباشر من افلوطين كما هو متعارف عليه عند الكثير.

ويحاول أدمسون ان يسد الفجوتين في فهمنا للافلاطونية المحدثة العربية. وهذا في الوقت نفسه يفسر لنا لماذا نجد متن الكتاب يهتم بأفكار معينة على حساب أخرى في ما يتعلق بقضايا النص واشكالاته. ان الفصول الاساسية والتي تمثل قلب الكتاب تمتد من الثالث وحتى الخامس، اذ يحاول المؤلف ان يقدم فيها بنية منظومية للفلسفة العربية ـ الاسلامية في صورتها الافلاطونية المحدثة. فقصد الباحث هو فلسفي بالأساس وليس دراسة فيلولوجية (Philological). وقد فحص الباحث، ايضاً، مسائل اصول وتركيبات الافلاطونية العربية في الفصل الأول، والثاني والسادس لدورها الاساس والضروري في التحليل الفلسفي الذي يقوم به.

وعلى رغم من ان هناك باحثين عديدين ناقشوا هذه المسائل، اعتمد عليهم الباحث في صياغة حججه وكذلك للوصول للنتائج التي استخلصها، حيث جعلوا من البحث في هذا الموضوع ممكناً، وهو بالفعل يشير الى دراساتهم كلما استدعى الأمر ذلك، لكن يبقى لأدمسون اسهامه الخاص الذي عرضه في مجرى معالجة الموضوع. ان وظيفة هذه الدراسة تأتي بوصفها وسيلة مفيدة لفهم أعمق للافلاطونية المحدثة العربية. اضافة الى المقصد التاريخي الذي يظهر من خلال وضع نص "الثيولوجيا" في السياق التاريخي الذي انتج فيه، وهو حلقة الكندي الفلسفية في بغداد في القرن التاسع الميلادي. فدائرة الكندي هذه كانت نشطة وفعالة في مجال الانتاج العقلي وفي تفسير وتأويل الأصول والمصادر اليونانية. ان هذا العمل الذي شرع به الكندي ومريدوه كان جزءاً من استراتيجية كبيرة للسلالة العباسية في مواجهة القوى المعادية ومنها الارستقراطية الفارسية. وعلى رأي استاذ جامعة "يال" الاميركية ديميتري كوتس: ان الفلسفة العربية ـ الاسلامية في صورتها الافلاطونية المحدثة جاءت كجزء سياسي وايديولوجي من حركة الترجمة. لقد كان غرض حركة الترجمة تقديم الفلسفة اليونانية ككل موحد، وأن توضع بالضد من المنافسين الفكريين الآخرين في ذلك الحين. حيث تعد الفلسفة اليونانية نتاجاً مختلفاً بالنسبة لهم، بدأ يشغل اهتمام مؤرخي الفلسفة من خلال التعرف الى التوترات والمناقشات التي جرت داخل الفكر الاغريقي. وكانت حركة الترجمة، ايضاً، جزءاً من محاولة لتقديم اجوبة عن الاسئلة والمشكلات الضاغطة والملحة التي تشغل أولئك الذين يقومون بعملية الترجمة.

ان الاصرار على الوحدة الجوهرية للحقيقة الفلسفية، وعلى الانسجام والتوافق بين مذهبي افلاطون وارسطو الفلسفيين دلالة على موقف التسوية والتوسط. ان هذا الموقف يروم ان يجعل الفلسفة كحقل معرفي مهيأة ومستعدة لتتناسب وتتماثل ولو في مطافاتها الأخيرة مع التفسير الديني التوحيدي. وهذا يعني ان الكندي وحلقة المترجمين من حوله كانوا تواقين لتقديم الفكر الفلسفي بوصفه حاملاً للأجوبة عن الاسئلة التي كانت مطروحة في ذلك المناخ الفكري. وانه ـ أي الفكر الفلسفي ـ يمكن ان يعطي جواباً واحداً متماسكاً منطقياً متى كان ذلك ممكناً. ويبرز هذا بشكل واضح في ميل المفسرين لوجهة النـظر الثيولوجية في تفسيرهم لنص "ثيولوجيا ارسطوطاليس" ليستجيب وطروحات الفكر الكلامي ـ الاعتزالي. والحقيقة يعد هذا من الأدوار المهمة التي لعبتها الافلاطونية المحدثة العربية في الوضع الفكري للقرن التاسع الميلادي.

ان المقصد المحوري للباحث هو فحص المذاهب الفلسفية التي قدمت في نصوص الافلاطونية المحدثة العربية. ومن أجل انجاز هذه المهمة المعقدة، يقوم الباحث باستيفاء مجموعة من شروط التحليل المنهجي التي تمكن من مناقشة طبيعة هذه النصوص والسؤال المعقد والمركب عن أصولها. ثم ان هذه الدراسة أصبحت ممكنة، أيضاً، لمرور عقود عدة حملت دراسات مختلفة قلبت هذه المسألة، على رغم هذا لا يدعي الباحث بتقديم جواب نهائي عن الاسئلة المهمة والكثيرة التي تحيط بالافلاطونية العربية المحدثة.

ان فائدة هذه المناقشة للفلسفة الافلاطونية العربية تأتي مما تكشفه من نقاط لم يسلط عليها الضوء، وكذلك في ما تتطلبه من تكرار الرجوع الى المرجع والعودة للاصل، اضافة الى الاهتمام بالوضع الحالي والراهن للنصوص. ففي الفصل المعنون بـ"نصوص الافلاطونية المحدثة واصولها" يقدم الباحث وصفاً تفصيلياً لمجموعة من نصوص الافلاطونية المحدثة العربية. كذلك يناقش بعض اهم المشاكل التي تحيط بأصول هذه النصوص. ثم اخيراً يوجز وبشكل مكثف تأثير الافلاطونية المحدثة العربية على الفلسفة الاسلامية اللاحقة.

ان ما يسمى بالافلاطونية المحدثة العربية يتأسس على مجموعة نصوص، وهي اولاً: النص المعروف بـ"ثيولوجيا ارسطوطاليس"، ثانياً: "رسالة في العلم الالهي"، وثالثاً: مجموعة اجزاء من نصوص تُعزى للشيخ اليوناني (افلوطين). انها جميعاً تعرّف اذن بنصوص الافلاطونية المحدثة التي مثلت في ما بعد قوام الافلاطونية المحدثة العربية.

انها دراسة متماسكة في طرح المقدمات والنتائج التي تؤدي اليها، كذلك انها دراسة جديدة ومهمة لأنها توسع من فهمنا لكلا السياقين الفلسفي والتاريخي للافلاطونية المحدثة العربية.

 

 

في المثقف اليوم