أقلام فكرية

الرمز والاشتغال في التفكير الانساني

يعد مفهوم الرمز من المفاهيم ذات الاشتغالات العميقة الجذور تاريخياً وفلسفياً، وتعد من المنطلقات الأولى في تكوين البنيات الاجتماعية للشعوب الأولى ذات التكوين البدائي في التفكير البشري، والذي اخذ بالبحث فيما ورائيات الظواهر الفيزيقية التي شكلت تحدي مباشر للوجود الإنساني المبكر، مما جعل إيجاد صيغ تعامل محددة في إطار فكري وزمني معين يتطلب من الباحث في هذا المفهوم إلى فهم طبيعة الأهداف المبكرة التي وجدت من أجلها تلك الظواهر الفكرية والحياتية التي ارتكز عليها إنسان الحضارات الأولى، وفي هذا المجال يرى (عالم الانثربولوجيا البنيوية كلود ليفي شتراوس) في محاولاته في تصوراته عن الطوطمية وما أنتجه العقل المتوحش، في إن تلك الشعوب عادة ما ننظر إليها على أنها خاضعة تماماً للحاجة إلى تجنب حالة التضور جوعاً، والاستمرار في حالة قدرة على البقاء في ظل ظروف مادية شديدة القسوة. هذه الشعوب تكون قادرة تماماً على القيام بتفكير منزه عن الهوى أي أنهم يتحركون من خلال الحاجة أو الرغبة لفهم العالم المحيط بهم طبيعة ومجتمع هذه العالم.

إن مرتكزات التحرك الغريزي المؤطر بالحاجات من أجل البقاء يعطي دافعية للشعوب الأولى من أجل تحصيل الاكتفاء الحياتي للبقاء والمرور بهذه الدافعية إلى البحث عن الديمومة لجعل هذا الوجود الإنساني يسير وفق بغيات منطقية تساير ما هو محيط وظاهر عياني مع ما هو مخفي ومحرك لهذا الوجود في إطار تفكير تبريري لتلك الحوادث والظواهر وما يكمن خلفها، لذلك استعاض الإنسان في تفكيره الأول بأشياء مادية تكون محمولة عن موضوعات يعتقد هي من أوجدت تلك الصور بمختلف أشكالها المخيفة أو السعيدة المشكلة لصور الحياة الأولية وتمثلاتها في داخل الوعي البشري.

إن التفكير الإنساني الأول جعل من هذه الصور وتمثلاتها في الوعي بمختلف مردوداتها وارتداداتها النفسية في داخل الوعي الأول تشكل حافز لمعرفتها وتحليلها، ولكن بسبب قلة الإمكانيات وبدائية الحياة حولها إلى أشكال مجسمة رمز بها إلى تلك الظواهر والتي تحولت بمرور الزمن إلى أشكال مقدسة ترمز وتشير بالوعي الجمعي إلى عملية تقديسية أنتجت نظام من المعتقدات التي بني على أساسها المشروع الطقسي والعبادي الأول عند إنسان الحضارات الأولى ذلك لان التقديس ينصب على الرمز وفعل التقديس نفسه هو صانع الرموز، كما أن الدين باعتباره وعياً جمعياً هو الوعي الرمزي عن جدارة ذلك لان الوعي الرمزي عندما يتحول إلى فعل رمزي يتخذ صورة الشعائر والوعي الجمعي هو الوعي المشتغل بالرموز وعلى مستوى الرموز، وهو الذي يستخدم الرمز باعتباره مشكلاً لرؤية العالم ومحفزاً على الفعل التقديس لها.

إن فعل التقديس لما يكمن خلف الرموز البدائية الطوطمية أنتجت الشعور بالمقدس والذي كونت طبيعة المجتمع الإنساني الأول وعكست قضاياه وحاجياته نحو البقاء، حيث اشتغل الرمز المقدس في تشكيل بنية الوعي ونزياحاتها نحو فرض مساحات فكرية محددة في إطار ما يعتقد المشتغل عليه لإعطاء تبريرات لمساحة المباح في حضرة الرموز وفعل ترميزاته في الوعي المتأمل لهذا الأفعال واشتغالاتها بين "المعنى الانطولوجي والمغزى الميتافيزيقي، ابتداء من الرموز الطوطمية في المجتمعات البدائية المندثرة، وانتهاء بالرموز الدينية،إذ إن الشعور (بالمقدس) – كما استخلص العالم بتاريخ الأديان والعقائد الدينية (مرسيا الياد) (هو عنصر من عناصر بنية الوعي وليس مرحلة من مراحل تاريخ الوعي، وذلك إن عالماً ذي معنى) والإنسان لا يسعه أن يعيش في العماء أو الخواء – هو حصيلة سيرورة جدلية يمكننا أن نسميها عملية تجلي المقدس، الذي يأخذ طبيعته الحضورية في طبيعة تكوين البناء الهرمي والقيمي للطقوس المرتبطة بشكل الرمز واشتغاله الشعائري ومدلولاته التي تتحول إلى بنيات أساسية في النظام التقديسي الديني والنظام الاجتماعي وحتى السياسي لتلك المجتمعات لان هذا البناء القائم على شقيه الميتافيزيقي كمدلول والفيزيقي الانطلوجي كدال يستند إلى فعالية العمليات الرمزية وارتباطها بالفعل الوجودي المرتبط  بسلطة ظاهرة أو خفية، ولكنه في كليته عملية تحقق ضروري للإنسان، فالبدائي يرى وجوده حقيقة واقعة ليست موضوع شك أو مجال تساؤل فلسفي... كما أن عالم المجردات منفصلاً عن عالم المحسوسات... فالرموز والطقوس هي (تشيؤ) وتجسيد لهذه المجردات، كما أنها أيضاً عملية تحقيق وجودي لهذه المجردات التي تصبح بمرور الوقت والاستخدام الانطلوجي للرمز ثابتة في طبيعة الرؤية البشرية في ضوء الاستمرارية الفعلية لهذه المفاهيم الرمزية في داخل الوعي كمحمول له أثر فعلي في تدويم السلطة الرمزية وتعويضاتها عن ما يتم التخلي عنه في المساحات الفكرية في داخل الوعي البشري، أن لهذه السلطة الرمزية وظيفة قائمة على الفعالية التعويضية في حقل الوعي المعرفي وبحثه فيما يؤكد وجوده وبقائه واستمرايته، لذلك فان الوظيفة الرمزية التي تتجلى في إطارها التعويضي هي ليست الحاصل البسيط للحركات المحددة، إنما هي ما تكونه علاقة ما بين أية حركة كانت بصفتها دالاً وبين شيء وفعل وحالة بصفتها مدلولات. مع ذلك فهي ليست إضافة وإنما ازدواجية كذلك فهي ليست شراكة بين حقيقتين منفصلتين بشكل بدائي، يكمن خطأ الترابطية بإعادة تكوين الحياة النفسية إلى بداياتها، بل هي ضرورة لتمكين الوعي من الاستمرارية في عملية ديناميكية هدفها إيجاد بدائل عن كل ما هو غير ممكن التواصل معه وفيه، لذا فان كل حالة تعويضية هدفها البحث عن البديل الذي يمكن الوعي البشري من التأقلم والتكيف مع ما هو قادم، لذلك جاءت الاستخدامات المتعددة والمتغيرة للرمز مع ما يستحدث من تصورات جديدة قابلة للبحث والتطوير في الوعي البشري، الذي يعمل على إنتاج ماهية الرموز وفعاليتها الفكرية في التصورات الذهنية، ومن هنا فأن منشأ الرمز في داخل الوعي البشري يأتي من الفعل المشترك للعقل والإدراك، فالعقل (القدرة البشرية لما فوق الحسي)، والإدراك (القدرة التي تعرف وفقاً للأحاسيس) يعملان معاً تحت توجيه الخيال لإنتاج الرمز، الذي ينبغي أن يظل موسوماً بالغموض والخفاء، فهي طريقة الإنسان في التعبير بوضوح عن تجربته في العوالم التي تظل جوهرياً غامضة وعصية على الفهم لتعلقها بالأفكار التجريدية، وهي عصية التوصيل إلا بطريق الرمز الذي يحدث نمواً في الذات، فيحصل نوعاً من الاعتماد المتبادل بين الرمز والذات التي أنتجته، فيه ثراء لها، وتعميق لأثر الرمز فيها.

ان خلاصة الفكر البدائي الذي تمظهر فيه الرمز بحالته الأولى يمكن ان نجمله بما يأتي:

أولاً: إن الرمز في الفكر الإنساني قديم الوجود ويعد ظهوره مرافق لظهور حاجة الإنسان الأولى للتعبير عن أفكاره وآرائه اتجاه الظواهر الكونية والطبيعية لمعرفة طبيعة تكوين العالم وهذه الظواهر الكونية، لذا استعاض عنها بالرمز من أجل محاكاتها وتنسيقه عملية الطقس التي ترافق تكوينها.

ثانياً: تحولت الرموز بفعل التعويض عن الظاهرة الغامضة المراد تفاديها إلى دال يحاكي مدلول خفي بحيث تحول هذا الفعل إلى تقديس للرمز، بحيث انصب على الرمز وأصبح فعل التقديس هو صانع الرموز من خلال صورة الشعائر المقامة في الفعل التقديسي للرمز.

ثالثا: أنتجت عملية التقديس وظيفة رمزية تتجلى في إطار تعويضي ناتج عن علاقة بين أية حركة كانت بصفتها دالاً وبين شيء وفعل وحالة بصفتها مدلولاً، وهذه الوظيفة هي ضرورة لتمكين الوعي من الاستمرارية تهدف لإيجاد بدائل عن كل ما هو غير ممكن التواصل معه وفيه.

رابعاً: أن منشأ الرمز في داخل الوعي البشري يأتي من فعل مشترك بين العقل والإدراك والأول قدرة بشرية ما فوق حسية والإدراك القدرة التي تعرف بالإحساس، ومن خلال عملها المشترك تحت سلطة الخيال والبحث عن التأويل والتفسير للأشياء والظواهر يأتي إنتاج الرمز البديل عن الصورة التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الرمز.

 

الدكتور أحمد ناصر الشندل

 

في المثقف اليوم