أقلام فكرية

الميتا ديني (رؤية وجودية)

علي المرهجهُناك مفهوم ساد في ثقافتنا العربية والإسلامية ألا وهو (الميتافيزيقا) ومرادفه هو (ما بعد الطبيعة)، وهو في الفلسفة التقليدية مفهوم مُرادف لمفهوم الفلسفة، لأنهما مفهومان من حيث التعريف التقليدي غايتهما البحث في أسباب الوجود، أو علل الوجود للوصول لعلته الأولى، أو علة العلة، وهي في التفسير الديني (الله)، وبتعريف آخر هي البحث عن الوجود بما هو موجود، وقد قال بارمنيدس من قبل "أن الوجود موجود ولا يُمكن أن يكون غير موجود".

أما ما نقصده في "الميتا ديني" فهو معنى آخر يشتغل على الكشف عن الأبعاد الميتا وجودية للنص القُدسي، ويُحيط علماً في الأبعاد التكوينية للفهم الخارج نصي التي تجعل من الإنسان الذي يعيش في عوالم الميتا ديني يعشق النص ويتأمل فيه بالوقت ذاته.

الفهم الميتاديني هو فهم تصوري نظري يغوص في عوالم النص القُدسي وفهم تجلياته خارج منطق التفسير التاريخي والعقلاني وأسباب نزوله، عبر الهيام والعشق لمضامينه وما يشي به من أبعاد خارجه عن تلقينا المُباشر أو تلقينا البرهاني للنص، أو حتى تلقينا النقلي له عبر تواتر التوثيق والتفسير عند أهل بيت الرسول والصحابة.

"المياتا ديني" هو اعادة تصيير للنص الديني وفق مُعطيات خارج أطر التعقل وفق منطق الاستدلال البرهاني، أو تفسيره الفقهي أوالبياني.

إنه تفسير يحتكر النص بطريقته الخاصة، ولكنها ليست طريقة العامة من الخطابيين، وليست طريقة الفلاسفة من البرهانيين، ولا طريقة الجدليين من الكلاميين والفقهاء، وهي أيضاً ليست طريقة كل الباطنيين المُتمذهبين.

يلتقي أصحاب هذا الفهم "الميتاديني" مع دُعاة "المعرفة الجوَانية" بعبارة عثمان أمين بالشغف بطُرق الهائمين في محبة الله ببعد "ميتاديني" يلتقي به كل ذوي هذا النزوع خارج هيمنة الفهم السائد التقليدي (الفقهي المُتمذهب) أو (الشعبي العُرفي) للنص القُدسي.

الفهم الميتاديني فهم لا يخلو من بناء تصور فيه اعتبار ونظر يستعين أصحابه بقُدرة العقل على التنقل والسياحة في عوالم النص، ولكن لا طُغيان فيه للمعرفة العقلانية الصرفة إنما هو مزج بين ما هو إيماني قلبي خالص وما هو برهاني، فيه من فيض المعرفة العقلانية بقدر ما فيه من فيض المعرفة الجوَانية.

هو ليس فهماً من أجل معرفة أسباب الوجود (وجود العالم) إنما هو فهم من أجل فهم كينونة الوجود الإنساني وصيرورته، فهو بحث عن الذات في عوالم الذات تارة، وبحث عن الذات في عوالم الوجود الميتافيزيقي تارة أخرى، وكشف عن تجليات الكينونة الذاتية في الوجود مع "الآخر" وتلاقي (القوى الخفية) والطاقات الروحية الكامنة في روحية كل إنسان وإن كان مُخالفاً لك في جذر الوجود الاجتماعي أو الديني.

إذن فالفهم الميتا ديني هو فهم للهوية لا بالانقطاع عن الوجود والعالم كما يروم الصوفية، بقدر ما هو "إنهمام" تتمازج فيه المعرفتين الجوَانية والبرهانية كي تكون (الذات عينها كآخر) بعبارة بول ريكور، والآخر هذا الذي يتجلى وجوده وتنجلي هويته ربما يكون إنسان مُغاير لك في موروثه الاجتماعي أو الديني، وربما يكون الوجود برمته "علته ومادته" ولكنك لا تُعير اهتماماً لاختلاف أصل التكوين العُرفي أو "الأنطلوجي" بينك وبين هذا الآخر بقدر ما تعيش أنت في أناه أو ذاتك ذاته.

الفهم الميتا ديني يتعالى على التصنيف العرقي والديني ولا علاقة لمن يغوص فيه بتصنيفات البشر على أسس دينية أو عرقية، ولا علاقة له بالفهم الفقهي والمذهبي والإنحياز لتفسير ديني، لانه لا يشترط الإيمان الفقهي الذي تختص به الاديان ولا ارتباط له بتعبير طقوسي مُعين للتعالق مع الوجود المتعالي، أو وجودالعالم، أو الآخر، إنما التعالق يكون بين هذه التوصيفات الثلاث وفق مبدأ "العقلنة" الي يتعانق و مبدأ المحبة، ولا يتدخل في تصنيف البشر وفق رؤية (إما - أو) إنما يلتقي به المختلفون في الوجود العرفي المختلف دينياً أو مذهبياً وفق مُعطيات " العقلنة" التي ترى في "المحبة" دفق حيوي غايته لجم هيجان العقلانية وثوريتها وجنوحها نحو التفسير الأحادي للوجود بكل تمظهراته.

إذن فالفهم الميتا ديتي لا يهتص به أهل الإيمان بعقيدة دينية دون غيرهم، إنما هو تامل وإيمان معاً "مكان مُشترك" بتعبير محمد المصباحي تلتقي فيه العقول النيّرة التي يلتقي بها المختلفون دينياً من الذين يهيمون عشقاً بالوجود والأمل في عوالمه وفق مبدأي "العقلنة" و "المحبة"..

لا رفض للآخر في قاموس اصحاب الفهم الميتا ديني، لأن معجميتهم النعرفية تُبنى على عشق تجليات الفكر حينما يكون فيه ابداع أينما يكون وفي أي مكان..

إنه مزج بشري خلاق بين ما هو برهاني وعرفاني خارج هيمنة نص مقدس ما في عقيدة ما.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم