أقلام فكرية

القطائع الابستمولوجية في فكر فتجنشتين (3)

محمود محمد عليفي هذا المقال نعود للمرة الثالثة ونكمل حديثنا عن القطيعة المعرفية عند فتجنشتين، حيث نقول لا شك في أن هذا الهيكل (الموجود في الرسالة) لا يقدم صورة وافية لمضمون الرسالة بأبعاده الكثيرة وأفكاره الثرية، ولكنه يبين علي وجه الاجمال أن فتجنشتين قد اتخذ من التحليل للعالم واللغة منهجا وغاية – وهي (علاج) الفلسفة من أمراضها المزمنة، وتوضيح أن معظم مشكلاتها التقليدية ليست مشكلات علي الإطلاق . لقد رد الفكر إلي لغة، ورد اللغة إلي تركيبات علي صور معينة . كما رد العالم الخارجي إلي وقائع، قوام كل واقعة منها أشياء بسيطة مترابطة بشبكة من علاقات . ومعني هذا أن العالم ينحل " وحدات أولية " هي الوقائع الذرية .

وتتألف هذه الوقائع من موضوعات بسيطة تمثلها قضايا أولية تستقل منطقياً عن بعضها البعض لكي يكون للجملة دلالة ما يجب أن تعبر إما عن قضايا أولية صادقة أو كاذبة، في هذه الحالة تعد القضية المركبة دالة صدق للقضايا الأولية موضع الحديث . هناك حالتان محددتان قد تختلف القضية مع سائر إمكانيات الصدق الأولية وهنا تكون قضية متناقضة أو تتفق معها جميعها فتكون قضية تحصيل حاصل، سائر قضايا المنطق الصادقة قضايا تحصيل حاصل بهذا المعني، وبالمثل تكون قضايا الرياضيات البحتة، وإن فتجنشتين يفضل تسميتها قضايا الهوية Identities، تخدم قضايا تحصيل الحاصل، وقضايا الهوية في أنها تسهل عملية الاستدلال الاستنباطي، وإن كانت هي ذاتها لا تخبرنا بأي شئ عن العالم، القضية الأصلية genuine تصور أمراً من أمور الواقع . هذه الصور هي ذاتها وقائع تشترك مع ما تمثله في الصور المنطقية والتصورية ذاتها، تفشل القضية في تمثيل أي شئ ما لم تصور الجملة أي أمر ممكن من أمور الواقع، سواء كانت بسيطة أو مركبة، ولما لم تكن الأقوال الميتافيزيقية هي ذاتها قضايا أولية أو دالات صدق لقضايا أولية، فإنها لا تمثل أي شئ ، إنها لغو فارغ، أو هي في أحسن حالاتها محاولات للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، ولكن فقط عما يمكن إظهاره للغير . وينطبق هذا علي علمي الأخلاق والجمال، كما ينطبق علي أي محاولات لوصف شروط التمثيل، وهو ما يجعل قضايا الرسالة ذاتها قضايا لامعني لها، يشبه فتجنشتين هذه القضايا بسلم يجب علي القارئ إلقاؤه بعد أن يصعد يندرج ضمن الأشياء التي سوف يدركها فتجنشتين أن الفلسفة ليست مذهبا ولكنها نشاط، نشاط يوضح قضايا العلوم الطبيعية ويبين أن الميتافيزيقيا لغو فارغ، ينهي فتجنشتين الكتاب بالعبارة الآتية " يجب أن نسكت عما لا نستطيع الحديث عنه".

كانت النتيجة المترتبة علي هذا التحليل، الذي ارتبط منذ البداية بموقف حاسم مما يسمي بالمشكلات الفلسفية، أن يقتصر المنهج الصحيح في الفلسفة علي " ألا نقول شيئاً إلا ما يمكن قوله بوضوح " – وهذا الشئ الوحيد الذي يمكن قوله بوضوح، فيكون صادقاً وله معني، هو قضايا العلم الطبيعي، أي أنه شئ لا علاقة له بالفلسفة ! " وبذلك نبرهن دائماً للشخص الآخر الذي يريد أن يقول شيئاً ميتافيزيقياً علي أنه لم يعط أي معني لعلامات (أو الألفاظ) معينة في قضايا . كما تصبح وظيفة الفلسفة وفاعليتها توضيح ما نعرفه بالفعل من قبل عن طريق آخر غير الفلسفة – لأن كل ما يقوله الفلاسفة من قضايا وما يثيرونه من أسئلة ومشكلات هي مما لا يقال، وإذا قيلت لم تكن صادقة ولا كاذبة، وإنما خالية من المعني (حسب ما تقوله العبارة المشهورة في الرسالة، الفقرة 003،4) ومن ثم استطاع " فتجنشتين " في الرسالة أن يقول إن مهمة الفلسفة تقع فوق العالم الطبيعي أو دونه، وأن القضايا الوحيدة التي لها معني هي قضايا العلوم الطبيعية، وأن عبارات الميتافيزيقيا وعبارات الأخلاق والجمال، بل وعبارات الرسالة المنطقية نفسها هي علي أفضل الأحوال مما لا يمكن قوله وإنما يمكن أن يظهر أو يتجلي بنفسه.

وهنا نلاحظ مع بعض الباحثين أن " فتجنشتين "يستخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية فلسفية . فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلي مجموعة من الوقائع . أو رد اللغة إلي عدة قضايا، أو رد المعني إلي طريقة استخدامنا للألفاظ – إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلي غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل، زال عنها كل غموض واتضح أنها مشكلات زائفة، أو أنها ليست بمشكلات أصلاً . وفد عبر " فتجنشتين " عن هذا المعني تعبيراً دقيقاً بقوله :" إن معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية، ليست كاذبة، بل خالية من المعني فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل . وكل ما يسعنا هو أن نقرر أنها خالية من المعني، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا" وكان هذا هو المنهج التحليلي هو الغاية التي يهدف إليها فتجنشتين في الفلسفة دائما . وفي هذا الصدد كان يقول " إن نظرته إلي أعماله الفلسفية لا تعني بما إذا كانت النتائج التي توصل إليها صحيحة أو غير صحيحة، فإن كل ما يهم هو أن منهجا جديدا قد وحد .

ولا جدال في التأثير الكبير الذي مارسته رسالة " فتجنشتين " علي فكر الوضعية المنطقية . فقد اعترف مورتس شليك بأن الرسالة وضعت الفكر الفلسفي المعاصر في مفترق الطريق . فهي – وكما يري – نقطة تحول حاسمة . وليس هناك شك في أن هناك شك في هناك نقاط اتفاق بين الأفكار الأساسية والسائدة لدي دائر فيينا ومواقف الرسالة . فهناك مثلا فكرة أن القضايا الأصلية عبارة عن دوال قضايا للقضايا الأولية، وفكرة أن الحقائق المنطقية والرياضية تحصيلات حاصل وأنها – من ثم – لا تقول شيئاً . وأن الفلسفة ليست جهازا من الحقائق، إنما فاعلية أو نشاط يستهدف توضيح الأفكار توضيحا منطقيا، وتعيين حدود المعني المشروع وتمييزه عن المعني غير المشروع .

ولكن هناك بين الرسالة والوضعية اختلافات، فالوضعية لم تأخذ – فيما يتعلق بالقضايا – بالنظرية التصويرية، وهي النظرية المركزية في الرسالة . والفكرة الأساسية لدي الوضعية المنطقية هي أن كل القضايا الأصلية تقبل الرد إلي قضايا تسجل الادراك المباشر أو تسجل المعطي المباشر في الخبرة . ولا توجد هذه الفكرة في رسالة فتجنشتين .

ومن جهة أخري، تزخر الرسالة بالشذرات التي تؤكد علي هذه النظرية التصويرية في اللغة (أنظر امثلة من الرسالة).إن فكرة " فتجنشتين " في أن اللغة مرآة العالم أو صورة له، أو أن اللغة تعكس العالم، ينبغي النظر إليها علي انها فكرة عن الامكانيات . فكل الاختيارات الممكنة التي بإمكان العالم المنطقي أن يختارها تنعكس بالفعل في لغة، وكل إمكانية يتم معادلتها بعبارة واقعية لها معني محدد . فكما يقول " فتجنشتين " أن عالم يمكن أن يأخذ شكله فقط من خلال إطار منطقي . واللغة التي هي اداة الفكر، تهدف إلي تقرير الوقائع، وهي تحقق هذا عن طريق تصوير هذه الوقائع أو عن طريق إنعكاس هذه الوقائع في اللغة التي هي مرآة لهذه الوقائع . فقد استهدف فتجنشتين من قوله أن اللغة تصور الوقائع أن يؤكد علي أن اللغة لابد أن تكون شبيهة، من حيث البنية، بما تصوره . فالقضية المثبتة هي صورة لواقعة ممكنة، بنفس الطريقة التي يمكن للخريطة أن تصور بلد ما، هذا علي الرغم من أنه قد يتعذر في كثير من الأحيان تبين الجانب التصوري من اللغة، فالمنطق يكشف عن بناء اللغة، ومن ثم عن بناء الواقع، لأن البنائيين هما في الحقيقة بناء واحد أو هما مثل المرء وظله .

وقبل أن ينهي " فتجنشتين " كتاب الرسالة تناول مسألة وحدة الأنا بطريقة نجد فيها صدي لقراءته لشوبنهور . يقول فتجنشتين " ما يقصده اتجاه وحدة الأنا صحيح ولكن فقط لا يمكن التعبير عنه بالقول ولكن فقط بالكشف عن نفسه في الواقعة التي مفادها أن حدود اللغة " اللغة " التي أنا فقط من يمكن فهمها " تعني حدود عالمي "، ثم قال بعد ذلك " لا تنتمي الذات للعالم ولكنها حدود العالم " مقارنا إياها في هذا الصدد بالعين التي هي ليست في ذاتها جزءا مكونا للميدان البصري، لتكون النتيجة أن اتجاه وحدة الأنا تنكمش إلي حد أن تصبح نقطة بلا امتداد، وهناك يبقي الواقع متضايفاً معها . ويقول اخيراً ما يدرج الذات في الفلسفة هو الواقعة القائلة بأن " العالم عالمي " والذات الفلسفية ليست الكائن الحي ولا الجسم البشري أو النفس الإنسانية موضوع علم النفس، ولكنها الذات الميتافيزيقية حيث حدود العالم ليس جزءا منها .

إن ما تقوله الأنا وحدية Solipsism لا يمكن التعبير عنه بألفاظ اللغة .. والأنا وحدية " هي ذلك الاعتقاد القائل بأنني وحدي موجود " وعلي ذلك فكل ما أعرفه أو أدركه هو ما يوجد أيضا بالإضافة إلي وجودي، وقد عبر رسل عن ذلك المعني بقوله " إن الأنا وحدية هي تلك النظرة القائلة بأنني لا أستطيع أن أعرف شيئا علي أنه موجود باستثناء ما يقع في خبرتي أنا" . وعلي ذلك " فالفيلسوف الذي يؤمن بالأنا وحدية – مثلاً – يشعر بأن كلمة مثل – أنا – لا بد أن تكون ملازمة لكل وصف أو خبرة ". وفتجنشتين في رسالته المنطقية الفلسفية كان يؤمن بفكرة الأنا وحدية، لأنها كانت نتيجة مترتبة علي فكرته عن القضية من حيث هي رسم يصور الواقع الخارجي ... والتي كان يذهب فيها إلي أن صدق أو كذب القضية إنما يتوقف علي مقارنتها بالواقع لمعرفة مدي تعبيرها . " فالوجود يقارن بالقضية "، " والقضايا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة بكونها رسوما للوجود الخارجي "، وعلي ذلك فحدود الواقع الذي أدركه هي حدود اللغة التي أعبر بها عن هذا الواقع طالما كانت القضايا رسماً للوجود الخارجي ... وكان هذا هو السبب في قوله " إن معني أن العالم هو عالمي، يتبدي في الحقيقة القائلة بأن حدود اللغة (اللغة التي أفهمها) تعني حدود عالمي ". إلا أن ما تقوله الأنا وحدية، هو مما لا يمكن أن يقال إذا طبقنا عليه مبدأ فتجنشتين نفسه، لأن فيه تجاوزا لحدود اللغة، فحيث " إن ما يمكن أن يتجلي بنفسه في التقابل الموجود بين العالم الذي أدركه من جهة – وبين اللغة التي أعبر بها عن هذا العالم من جهة أخري – فهي بالتالي مما لا يمكن الحديث عنه . وفضلا عن ذلك فطالما أنه ليس هناك إلا الوقائع التي أدركها في الوجود الخارجي، فإنني لا أستطيع أن أقول " إن العالم هو عالمي "، علي الرغم من ان ما تعنيه هذه القضية صحيح، إذ أن وجود العالم ككل، هو في مقابل اللغة التي أتكلمها (من حيث هي مجموع القضايا التي تصور الوقائع الخارجية) ككل . الأمر الذي أدي به إلي القول " بأن الجانب الملغز، ليس في كيف يكون العالم، بل في أن العالم موجود مطلق وجود .  ومن ثم ينتهي فتجنشتين إلي القول عن الأنا وحدية " بأن ما تعنيه، صحيح تماما، إلا أنه مما لا يمكن قوله، إنما يتبدي لنا فقط " . وبناء عليه، فكل ما نقوله عن العالم ككل، أو عن أن العالم هو عالمي – هو مما لا يمكن قوله، فإذا ما قلنا شيئا من ذلك، فإننا – بالنسبة لفيتجنشتين – إنما نتكلم كلاما لا معني له، لأنه يتجاوز حدود ما يمكن قوله، أي حدود اللغة . ومن الطبيعي أن هذا الحكم ينطبق علي كلام فتجنشتين نفسه .

ثالثا: القطائع المعرفية والبحوث الفلسفية

أخذ فتجنشتين بعد فترة من ظهور الرسالة في مراجعة الكثير من أفكاره وبدأ تحولا كبيرا في المنهج وأصبح معروفا في الأوساط الفلسفية، أن لفتجنشتين فلسفتين، يشار إلي أولهما بـ" فتجنشتين المبكر" وإلي " فتجنشتين المتاخر"، وقد قيل في وصف هذا التحول بأنه إذا كان " فتجنشتين" قد بدأ رسليا، إلا أنه قد إنتهي " موريا". لقد بدأ " فتجنشتين " " رسليا" وانتهي " موريا" فقد ساير رسل في ذريته المنطقية وتابعه في اعتقاده بأن المنطق هو اساس الفلسفة، فالفلسفة تتألف من المنطق والميتافيزيقيا، بحيث يكون المنطق أساسا لها . ولكنه تابع مور – فيما بعد – في تأكيده علي اهمية تحليل اللغة   الجارية، وبعبارة أخري نستطيع أن نقول مع " د. محمد محمد مدين"، أن فكر فتجنشتين المتأخر هو سلب أو نفي لفكرة المبكر " .

وقف فتجنشتين – متابعاً مور ورسل – في صف الثورة ضد المثالية إلا أنه قد بالغ في هذه الثورة، وجاهد فيها بعنف، حتي بدت هذه الثورة لا ضد المثالية فحسب، بل ضد كل أنواع التفكير الميتافيزيقي، بل وضد الفلسفة ذاتها . وقد أخذ الباحثون فلسفة فتجنشتين بأنها " كانت فلسفة ضد الفلسفة ... فعلي حين كانت أسمية " أوكام" نصلا يجتز به الزيادات الطائشة للفلسفة، كانت نظرية فتجنشتين عن اللغة فأساً يقطع بها شجرة الفلسفة " . ومن الملاحظ أن مساهمة فتجنشتين في الفلسفة تشكل تذبذباً بين آراء " رسل " وآراء " مور " فهو يبدأ في مرحلته المتقدمة علي أساس من آراء رسل، وينتهي في آرائه المتأخرة مناصراً لمور . فنظريته عن اللغة كما وصفها في كتابه المعروف باسم "رسالة منطقية فلسفية" (1922) تقوم علي أساس التحليل الميتافيزيقي الذي وضعه رسل . أما في فلسفته المتأخرة كما بدت في " الكتاب ألأزرق" (1958) أو " الكتاب البني " (1958) و" بحوث فلسفية" (1959) فهي تبتعد عن نظريته الأولي كانت تستلزم نسقاً ميتافيزيقياً، فرفضها ورجع أساساً إلي موقف " مور" . وباختصار، فقد كان في الطور الأول " رسلياً" مع حبكة لغوية . أما في الطور الثاني فقد كان " مور " معبراً عنه في حدود لغوية .وبذلك نلاحظ أن فتجنشتين في ذريته المنطقية المعروضة في " الرسالة" كان فيها متأثراً برسل، أو كان كلاهما متأثر بالآخر.

ويحدد بعض الباحثين المرحلة الأولي من مراحل تفكير " فتجنشتين" بالفترة المنتهية بعام 1911.أما المرحلة الثانية من مراحل تفكير " فتجنشتين" فهي تلك التي تبدأ من عام 1911 حتي عام 1930، وفي هذه المرحلة لم ينشر أي أبحاث أو كتابات، وما نشر من اعماله كان بعد وفاته، ومنها الكتابين "الأزرق" و"البني"، نسبة إلي للون غلاف كل منهما، و" الأزرق" أكثر أهمية من "البني " لأنه يحتوي علي " التمهيد" لما وصفناه بالفلسفة الجديدة، وبجانب هذين الكتابين هناك كتابه الهام " البحوث الفلسفية" الذي يعبر فيه " فتجنشتين " عن فلسفته الجديدة، وهو مكون من جزئين انهي فنجنشتين من أولهما عام 1945، أما الجزء الثاني فقد كتبه بين عامي 1947 و1949 . وقد قامت بترجمته إلي اللغة الإنجليزية تلميذته أنسكوم Anscombe  ، وقامت بنشره هي وريز R . Rhees  في مؤسسة بلاكوبل عم 1953، ثم أعيد طبعه عام 1958، ثم ظهرت الطبعة الثالثة له عام 1936 .

وفي مقدمة كتاب " البحوث الفلسفية " اعترف فتجنشتين بأنه حينما أكمل "رسالته المنطقية الفلسفية "، كان مقتنعا بأن النتائج التي انتهي إليها كانت صادقة صدقاً يقينيا، وبأن المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها أخيراً – علي الأقل من حيث المبدأ – كما ذكر في مقدمة "رسالته" "... أن الأفكار التي سيقت هنا، يستحيل الشك في صدقها أو هي أفكار مقطوع بصدقها، ولذا فإنني أعتقد أن ما هو أساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا" . ولذا كان من الطبيعي أن يترك فتجنشتين الاشتغال بالفلسفة، طالما أنه قد توصل إلي حل مشكلاتها الكبرى " .

وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي أن فتجنشتين كان واثقاً تمام الثقة مما توصل إليه من نتائج في رسالته . ثم حدث له حادث فكري كان ناتجاً عن مناقشاته مع الآخرين ومع نفسه أن بدأت ثقته تقل في مدي صحة ما توصل إليه من نتائج فلسفية سابقة . ولذا قرر فتجنشتين العودة مرة أخري إلي الفلسفة، لكي يعيد النظر في موقفه الفلسفي . وباختصار لكي يبدأ من جديد " وهذا ما فعله فقد عاد مرة أخري إلي كمبردج عام 1919 لكي يستأنف عمله الفلسفي .

واخيراً يعترف فتجنشتين بوجود أخطاء فيما توصل إليه في الرسالة فيقول :" وقد أتيح لي قبل أربع سنوات أن أعيد قراءة كتابي الأول (وهو الرسالة المنطقية الفلسفية) وأشرح أفكاره . عندئذ خطر لي فجأة أن من الواجب علي أن أنشر تلك الأفكار القديمة، بحيث يلقي الضوء الصحيح علي هذه الأخيرة ويتيسر الاطلاع عليها من خلال تعارضها مع طريقتي القديمة في التفكير وعلي اساسها . ذلك لأنني اضطررت للاعتراف بوجود أخطاء فادحة فيما كتبته في ذلك الكتاب الأول . وقد حدث هذا منذ أن رجعت للاشتغال بالفلسفة قبل ستة عشر عاماً خلت . وساعدني علي تبيين هذه الأخطاء – إلي الحد الذي لا أستطيع أنا نفسي تقديره – ذلك النقد الذي وجهه " فرانك رمزي " لأفكاري، والذي ناقشته فيه طوال السنتين الأخيرتين من عمره خلال أحاديثي التي لا حصر لها معه . وبجانب هذا النقد – الذي كان صائباً وملزم علي الدوام – أشعر كذلك بدين أكبر لذلك النقد الذي لم يكف أحد أساتذة هذه الجامعة، وهو السيد " ب . سرافا "، عن توجيهه لأفكاري علي مدي سنوات طويلة . إن أكثر الأفكار اتساقاً في هذا الكتاب (ويقصد كتاب البحوث الفلسفية) ليرجع الفضل فيها لهذا التنبيه المستمر. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم