أقلام فكرية

عبد الراضي رضوان: هل تأثر فلاسفة الوجودية بالتصوف الإسلامي؟

الإسلام والوجودية.. هل تأثر فلاسفة الوجودية بالتصوف الإسلامي؟

إذا توافقنا على تصور الأفكار الفلسفية دائرةً متصلة الأطراف يقود بعضهاَ إلى بعض في إطار متجدد من عدد من الرتوش والإضافات الظرفية لمناسبة الآن والزمان والحال. فإن فلاسفة الوجودية ليسوا بمنأى عن ذلك؛ لهذا فمن الغريب ألا تجد محاولة الفيلسوف المصري د.عبدالرحمن بدوي، وكذلك المفكر الأصيل الذي لم ينل ولو جزءاً من حقه الأدبي والفكري الدكتور عبدالغفار مكاوي، لم تجد محاولتهما في نص د.عبدالرحمن بدوي على التشابه بين أفكار فلاسفة التصوف الإسلامي واصطلاحاتهم وأفكار فلاسفة الوجودية سورين كيركجارد (١٨١٣ م - ١٨٥٥ م)، هيدجر (١٨٨٩م - ١٩٧٦م)، وفي تنبيه د.عبدالغفار مكاوي إلى تأثر الوجوديين بأبي البركات البغدادي، لم تجد من يعمل على فحصها ودرسها والتوسع في مقابلة النصوص ومقارنة الأفكار وتطابق النتائج والمقولات.

والسبب فيما يبدو ذلك الذي أشار إليه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي متمثلاً في قابلية الاستعمار لدينا، إن لم يكن عسكريا فليكن اجتماعياً وثقافياً يضعنا في مقام التابع لا المتبوع، لأن مقام المتبوع يزيل الوهج والانبهار الذي تسربلت به منتجات الحضارة الغربية.

لكن لأننا قد درجنا واعتدنا الموضوعية نهجا بحثيا بعيداً عن الذاتية فيما يقتضيه البحث العلمي، فإننا سنعمد إلى المقابلة بين بعض المسائل التي عرضها فلاسفة الوجودية مما نجد له نظيراً سابقاً في معطيات الفكر الإسلامي وتمثلاته الصوفية.

ولنبدأ بمسألة الموت.

تنظر الوجودية إلى الموت على أنه جزء من الهوية الإنسانية الملازمة لوجودها منذ الميلاد، فالموت والحياة نقيضان يمثلان الوجود والعدم قد وجدا جنباً إلى جنب في دورة متواصلة ووجود غير منفصل، وكأن أحدهما غطاء للآخر ومحايث له في الوجود، فهو هوية في الوجود وفي اللاوجود، ويأتي الموت عندما يفارق الوجود (حالة الإمكان ألى الاستحالة فيحل الموت (العدم) محل الوجود العيني (الدازاين)

وليس الموت في الوجودية تتويجاً لاعتزال اللاعبين ملاعب الحياة، لأن الموت لا يختص فقط بكبار السن أو المرضى، بل إنه لا يميز بين كبير وصغير أو بين صحيح وعليل، فهو الحاضر الحي في كل وقت.

وهو تجربة ذاتية لا يعانيها إلا صاحبها ولن يفهمها غيره وإن مات العالم كله أمامه.

وبداية فإن التصوف الإسلامي وفلاسفته الكبار مثل ابن عربي والحلاج وابن سبعين والسهرودي هم الرافد الأول المفترض للتأثير في فلاسفة الوجودية، وذلك ليس نوعاً من المبالغة في التأويل واعتساف المشابهات بأي ثمن كما يتخوف د.عبدالرحمن بدوي (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي ص 82، 98)

بل إن الأمر يستند إلى واقع دراسات التصوف الإسلامي في الغرب على يد كبار المستشرقين واللاهوتيين على حد سواء بدءاً من (نيكلسون 1868م-1945 م) الذي ترجم وحقق بعض مثنويات جلال الدين الرومي وتذكرة الأولياء للعطار، واللمع لأي نصر السراج، وترجمان الأشواق لابن عربي.

ثم الأسباني (اسين بلاثيوسي ١٨71م- 1944م) الذي اعتنى عناية خاصة بابن عربي ثم بالغزالي حجة الإسلام.

أما الفرنسي (لويس ماسنييون 1883م – 1962م) فقد درس الحلاج دراسة مستفيضة ونشر ديوانه وكذلك (الطواسين) وأخبار الحلاج وكانت رسالته للدكتوراة عنه باللغتين العربية والفرنسية، كما كتب عن ابن سبعين.

وليست المقابلة التي أجراها د. بدوي بين المتناظرات والمتشابهات فيما بين التصوف الإسلامي وبين الفلسفة الوجودية في مسائل:

1- الوجود والماهية

2- الإنسان الكامل، الأوحد

3- الوجود كحياة تطبيقية للآراء في تجربة ذاتية للإنسان

فالآراء تحيا في التجربة الذاتية وليست نوعاً من المعرفة النظرية كما كان الحلاج يحيا حياة المسيح وآلامه في تعرضه للموت اختياراً كما تعتقد المسيحية.

و كما كان كيركجارد ينطلق من القصص الديني مقدمات للوجودية.

4- القلق ودوره في تحول الوجود من حالة الإمكان إلى حالة الكينونة المتعينة ليشغل مكان العدم الماهوي.

ليست هذه المقابلة إلا نماذج حقيقية من ذلك التشابه وبتلك المتناظرات التي عندما يُنظر إليها إلى جانب توفر المادة العلمية للإنتاج الصوفي الإسلامي لا يكون ثمة مجال للقول بالمبالغة أو التعسف.

و يزيد هذه النتيجة وضوحاً وتأكيداً التصور الإسلامي للموت سواء في التمثلات الصوفية أو السلفية على حد سواء.

فالموت في التصور الإسلامي ليس النهاية، وإنما اختتام مرحلة فحسب وبداية لمرحلة وجود أخرى لا متناهية الزمن وهي الحياة المثلى التي ينعدم فيها الموت عدماً حقيقياً ليحقق الوجود الحقيقي والكينونة المتعينة اللانهائية للإنسان، فالإنسان لم يخلق للفناء والعدم بل للبقاء والخلود فالموت في الإسلام ليس عدماً بل وجود خلقه الله إلى جانب الحياة ليؤدي مهمة فاعلة وظيفية: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).

وهذا الموت تجربة ذاتية لكن يعايشها الإنسان في الإسلام معايشة دائمة ومستمرة يومياً: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر/42

و تتعدد صور الموت في الإسلام ما بين موت وظيفي متجدد متكرر، وما بين موت وظيفي محدد.

فالموت الوظيفي المتكرر هو ما أشارت إليه سورة الزمر ممثلاً في الوفاة بالنوم.

أما الوظيفي المحدد فهو موتتان محددتان تعقبهما حياتان إحداهما محدودة قصيرة والأخرى غير محدودة: (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) غافر/11

هي الحياة الدنيا التي ينجح الإنسان فيها إن عاشها (كأنك غريب أو عابر سبيل) لأنها ممر

أما الثانية فهي الحياة الحقيقية الدائمة: (وما هذه الحياة إلا لهْو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت / ٦٤.

ويأتي التأكيد الإسلامي على تجاور الموت والحياة وتحايثهما كموجودين منذ بدء خَلْق الوجود، ولذلك ليس بغريب أن الوجود والحياة قد بدأت بالموت والعدم: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحْييكم ثم إليه تُرجعون) البقرة /٢٨.

ولذلك يفتقد الموت لدى الصوفية أية صيغٍ من المرارات أو التخوفات من المجهول؛ لأنه بمثابة إذن الولوج إلى لقاء المحبوب الأعظم: (مَن أَحبَّ اللهَ أحبَّ لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كره لقاءه) رواه الشيخان في باب من أحب لقاء الله.

ثانيا: (حقيقة الوجود الإنساني)

بعيداً عن تصنيف الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي للفيلسوف الألماني مارتن هايدجر بأنه ملحد، ذلك التصنيف الذي لا يصح بحال من الأحوال ولم يوافقه عليه أحد من الأثبات.

فهل يمكن القول بأن هايدجر عندما أقام نسقه الفلسفي على أساس من (الوجود) حياة الإنسان، (الموت) الذي هو جزء من كينونة الإنسان، وبينهما القلق تجاه مصير الإنسان الحتمي، ذلك القلق الذي ليس شعوراً بل قيمة فلسفية باحثة عن معنى الوجود وكيفية تحقيقه بالدازاين (Da zein) الوجود الحقيقي المتعين بالعالَم، ذلك الوجود الذي تفقد حياة الإنسان معناها إذا لم يحققه باختياره وإرادته الحرة، وإلا أصبح مغترباً عن ذاته، منتفياً وجوده الحقيقي، متهرباً من مسؤوليته الوجودية تجاه العالم، فاقداً البصمة المؤثرة في الحياة، متحولا إلى رقم في قطيع استهلاكي روتيني مغلق تافه.

هل يمكن القول بأنه أول فيلسوف غربي يدرك عظمة الخلق الإنساني على النحو الذي طرحه التصور الإسلامي بأنه سيد الكون الذي خلقه الله تعالى خليفة في الأرض لعمارتها وأمدَّه بكل مقومات الامتياز المناسبة لأداء تلك المهمة وتحمل الأمانة التي عجزت عن تحملها السموات والأرض والجبال، فمنحه العقل وأدوات الإدراك والحواس وأرشده بالوحي لكي يعمل بإيجابية وتأثير يُحاسب على التقصير فيه، فلا تزول قدماه حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مم جمعه وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به؟

فإن كان ذلك كذلك فما هي المصادر التي اعتمد عليها هايدجر من تراثنا ومن فلاسفتنا ومفكرينا خاصة أنه بدأ حياته لاهوتياً، بل يرى بعض نقاده كذلك مثل جلال صادق العظم أن نسقه الفلسفي عبارة عن لاهوت مُقَنَّع، أو على الأقل كما يقول جاك دريدا عن كتاب هايدجر الرئيسي (الوجود والزمان): إنه لم يُقرأ جيدا بعدُ، ولا يزال يعاني سوء الفهم أو عدمه، وما زال الكثير من مواضعه غير واضح وغامض وعسير على الفهم.

ويؤيد ما ذهب إليه جاك دريدا أن هايدجر نفسه قد انتقد الفيلسوف الفرنسي سارتر بأنه قد استعار اصطلاحاته لكنه حرَّفها؟

***

أ. د. عبد الراضي رضوان

عميد دار العلوم السابق - رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة

في المثقف اليوم