أقلام فكرية

المعرفة والمصلحة

علي المرهجحار المفكرون وتخاصموا حول علاقة المعرفة بالمصلحة، فبعضهم ذهب إلى استهجان الربط بينهما وآخرون وجدوا في الربط بينهما استهانة بقيمة المعرفة الحقة التي لا يبتغي أصحابها سوى جليل القول في عوالم الطموح والمُثل، ولكن بالضدَ منهم هُناك مفكرون وفلاسفة يبحثون عن الجميل النافع لا الجليل المُفارق.

كتب (وليم جيمس) فيلسوف البراجماتي وجوهرتها عن الجميل النافع، وأفاض من قبله فيلسوف "نقد العقل المُجردَ" (إيمانويل كانت) في الحديث عن الجميل والجليل المُفارق العظيم الشأن الذي تصح عليه اطلاق مفردة "الروعة" التي تختلط فيها مشاعر الانبهار التي تبدو لنا وكأنها مُختلطة بالشعور بالخوف المختلط باللذَة، لأن من مقتضيات الشعور بالجلال الاحساس بالقداسة حين النظر لمخلوقات أبدعها الخالق فيها من هيبة الحضور ما يُشعرك بقيمة (جلال) الموجد لها وإن احترت بتوصيفه وتعظيمه وفق رؤاك الحسية والشعورية أو بحسب ادراكك العقلي أو طبقاً لتجليات الأديان في روحك خارج هيمنة التوصيف الفقهي القاصر لمعنى (الجلال) وارتباطه بـ (الألوهية).

الجلال تستشعره حين النظر للجبال العالية الشاهقة لحظة تهيبك لصعودها، والجلال تجده في رؤيتك لثورات البراكين وما تُحدثه الأعاصير. إنه شعور متجانس بين الاحساس بالعظمة والقداسة وبين الخوف المختلط باللذة الجمالية.

الجليل كما الجميل عند كانت لا يرتبطان بغرضية البحث عن منفعة كما هو الحال عند وليم جيمس.

المعرفة والمصلحة هو عنوان كتاب للفيلسوف (يورغن هابرماس) يسير فيه على هدي الفلسفة البراجماتية في قبولها لعوالم (الميتافيزيقا) إن كان فيها تحقيق لمصلحة على قاعدة (وليم جيمس) في المرادفة بين ما هو صادق وبين ماهو نافع، فهابرماس لا يرفض الميتافيزيقا كما هو حال الوضعيين.

تعامل (هابرماس) مع الدين بوصفه (ميتافيزيقا) لها حضور اجتماعي مقبول، ولكنه يعمل على جعل الدين بلغته الرمزية بل وحتى الظاهرية رديفاً لمقبولية اللغة العقلانية المغايرة للغة دُعاة (الراديكالية الدينية)، مُحاولاً ايجاد (فضاء عمومي) يتشارك فيه العلمانيون مع المتدينين يُسميه (هابرماس) بـ "التعددية الثقافية" التي يدعو فيها كلاً من العلمانيين (الماديين) والمُتدينيين (الروحيين) للحوار والتواصل الثقتفي والاجتماعي الذي تفرضه طبيعة العلاقات البشرية.

أفاد هابرماس من نظرية المعنى عند فيلسوف البراجماتية ومؤسسها (جارلس ساندرس بيرس) بوصفها نظرية ممهدة لنظريته في الفعل التواصلي أكثر مما أفاد من نظرية الحقيقة وربطها بالمنفعة عند (وليم جيمس).

لم يتنكر هابرماس لغرضية المعرفة، ولكنه يجد في اللغة تعبيراً عن ماهية الوجود البشري كما هو العمل، وكلاهما عنصران يتميز فيهما الإنسان عن الحيوان، وفي اللغة كما في العمل قصد غرضي هو التواصل لذلك نجده يدعونا للتحررمما أسماه "فلسفة الوعي" لتنشغل الفلسفة في الكشف عن الفعل الغائي العقلاني، وفعل التواصل الذي يرمي لايجاد فلسفة اجتماعية تستفيد من رؤى الفلاسفة البراجماتيين الذين صنعوا فلسفة لهم خارج سطوة الفلسفة الانجليزية بطابعها التجريبي الصارم ليكتب لنا وليم جيمس عن فلسفة (مُحايدة) بعبارة مستعارة من (يحيى هويدي) تتخذ مقفاً وصطاً بين المثالية من جهة والواقعية من جهة أخرى، وبين الروحية من جهة والمادية من جهة ثانية، وهي القول الفصل لفض النزاع بين مذهبي الفلسفة التقليديين: العقلانية والتجريبية، لألنها تبحث عن الثمار ونتائج الأفكار في المستقبل، ولها قيمة تربوية وأخلاقية عُليا في فلسفة (جون دوي) "الاداتية" وتأكيده على أهمية المعرفة التواصلية أو (الاتصالية) في ردم الهوة المعرفية بين التلميذ وعالمه.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم