أقلام فكرية

الفروض المساعدة وميثودلوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش (1)

محمود محمد عليإن الثورة العلمية التي أحدثها "أسحاق نيوتن"Isaac Newton 1642-1727، قبل القرن التاسع عشر، وبالذات  في مجال الرياضيات والبصريات وما أستتبعها من نتائج عملية في مجال الرياضيات التطبيقية، وعلي وجه الدقة في الميكانيكا والفيزياء العملية، أفضت إلي استخدام التجريب بصورة تكاد تكون شبه دقيقة إلي حد ما في مجالات العلم المختلفة . ومع ازدياد التجريب أصبحت النتائج التي أمكن الحصول عليها من التجارب بمثابة محصول نظري جديد يسمح لنا بتنبؤات وتجارب أخري، وعلي هذا الأساس نتجه إلي مزيد من التجريب إذا ما أيدت هذه التنبؤات مشاهدات ووقائع جديدة تتفق مع المعطيات النظرية . أي أنه بصورة أو بأخرى يمكن لنا القول بأن حصيلة البحث في الاتجاه الاستقرائي ازدادت بصورة ملحوظة بعد عصر نيوتن، مما جعل الباحثين يتصدون لتفسير الوقائع علي أسس منهجية .

ومن هذا المنطلق كان الاهتمام الرئيسي لأصحاب الاتجاه الاستقرائي ينصب حول الطريق المؤدي إلي الكشف عن القوانين، واعتقدوا أنه من الممكن رسم منهج لتحقيق ذلك، فنجد أن كلاً من " " فرنسيس بيكون " ) Francis Bacon  (1561-1626، و" وجون ستيوارت مل" J.S.Mill (1806-1873)، قد حاولا تشييد منطق للكشف موازياً لمنطق البرهان، وقاما بصياغة المناهج التي من وجهة نظرهما، تمكن من اكتشاف قوانين الظواهر كنتيجة لتحليل وقائع الملاحظة والتجربة، كما وضع كل منهما منطقاً منهجياً علي غرار المنطق الأرسطي من أجل الوقوف علي الحقائق   الكونية، ومن ثم ادعت بأن قواعد الاستقراء تفسر العملية المنطقية للكشف عن القوانين .

ولذلك نشأ تصور للاستقراء باعتباره وسائل منطقية لصياغة العمليات الخاصة بتكوين واكتشاف المعرفة العامة للارتباطات القائمة بين الظواهر علي أساس معرفة الوقائع الجزئية . وبصفة عامة رد الاستقراء إلي ما يسمي بالمنهج الاستقرائي للبحث والذي تمثل في الخطوات التالية:

الخطوة الأولي: الملاحظة التجريبية . فلابد أن يقوم العالم بملاحظة أمثلة عدة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلي أقصي حد ممكن للتكميم الدقيق. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها .

الخطوة الثانية: هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لوحظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال .

الخطوة الثالثة: هي افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم، كافتراض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين .

الخطوة الرابعة: هي التحقق من صحة الفرض عن طريق اختباره تجريبيا . ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا دحض كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، تنفيذ حكمها يعني الخطوة الأخيرة للمنهج، وهي بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلي بنيان العلم .

وقد أشار "بيفردج" إلي كل ذلك (خاصة فيما يتعلق بالخطوة الرابعة)، وإلي ضرورة عدم التشبث بالأفكار التي لا تثبت صلاحيتها " فينبغي أن نكون علي استعداد للتخلي عن فروضنا أو تعديلها طالما يتضح أنها لا تتمشي مع الوقائع . وليس هذا بالأمر الهين كما يبدو للوهلة الأولي . فعندما يبتهج المرء أن يري احدي بنات أفكاره الجميلات تبدو قادرة علي تفسير كثير من الحقائق التي لولاها لكانت متنافرة، وعندما يجد هذه الفكرة مبشرة بالمزيد من التقدم، فقد يغريه هذا بالتغاضي عن آية مشاهدة لا تتفق مع الصورة التي نسجها، أو علي التخلص منها بأى تفسير، فليس من النادر أبدا أن يتمسك الباحثون بفروضهم المهلهلة، متغافلين عن الأدلة المعارضة لها، وأن يتعمدوا إخفاء النتائج المخالفة لفروضهم،  أي المكذبة لها . بل وحل بيفردج هذا بقاعدة شبيهة بقاعدة بوبر، لكن طبعا ليس في دقتها إذ قال إذا فشلت نتائج التجربة أو المشاهدة الأولي في دعم الفرض فمن الممكن أحيانا بدلا من نبذه كليا في أن نوفق بينه وبين الحقائق المعارضة له بواسطة فرض ايضاحي  ثانوي، أي مساعد المهم دائما هو قبول النقد .

ومعني هذا أنه عندما يضع العالم فرضاً لتفسير ظاهرة ما، فإنه يقوم بالاستنتاج من هذا الفرض بعض النتائج التي تمثل إختيارا لهذا الفرض، والحقيقة أن عملية الاستنتاج لا تكون من الفرض وحده، ذلك أن العالم يقوم بالاستنتاج من الفرض مقترناً مع مجموعة إضافية من الفروض , وهي ما يطلق عليها الفروض المساعدة Auxiliary Hypotheses (الفرض المساعد هو الذي يمكن اختياره فى حد ذاته، وتؤيده أمور أخرى غير التي وضع لتفسيرها فتزيد من مضمون النظرية وقوتها). وقد تكون هذه الفروض المساعدة غير مذكورة صراحة مع الفرض الأساسي . ولكن أحياناً ما يكون الفرض الأساسي متضمنا لها .

ويعطينا كارل همبل مثالاً  قائلاً:" ولنأخذ علي سبيل المثال فرض سيملويز القائل بأن حمي النفاس يحدثها التلوث بالمادة المعدية . لنفحص اللزوم الاختباري القائل بأنه إذا كان علي الأشخاص القائمين علي رعاية المرضي أن يغسلوا أيديهم بمحلول الجير المنقي بالكلور فإن نسبة الوفاة حينئذ من حمي النفاس تقل هذه القضية لا تنتج استنباطا من الفرض وحده. فاشتقاقها يفترض مسبقا المقدمة الاضافية القائلة بأنه بخلاف الصابون والماء وحدهما سيقضي محلول الجير المنقي بالكلور علي المادة المعدية. هذه المقدمة التي يسلم بها ضمنا في البرهان تلعب دورا فيما نطلق عليه الفرض المساعد في اشتقاق القضية الاختبارية من فرض سيملوبز ومن ثم لا يجوز لنا أن نقرر أنه إذا كان الفرض "ف" صادقا كان اللزوم الاختباري "ل" . كذلك ولكن إذا كان كل من ف والفرض المساعد صادقين كان اللزوم الاختباري " ل " كذلك . الاعتماد علي الفروض المساعدة هو القاعدة أكثر منه الاستثناء في اختبار الفروض العلمية وله نتائج هامة لمسألة ما إذا كانت نتيجة من نتائج الاختبار غير موافقة لواحدة من النتائج التي تبين أن  " ل " كاذبة . فقط يمكن التمسك بها لدحض الفرض موضع الاختبار .

وغالباً ما يتم تغيير وتعديل في الفروض المساعدة بغرض المحافظة على الفرض ". ويختلف فلاسفة العلم بشأن عملية التعديل والتنقيح التي تتم للفروض المساعدة . فنجد أن البعض مثل " توماس كون Kuhn T." (1922-1996)، يذهب إلى أنه يمكن أن تعدل كل النظريات بدون أن تفقد خطوطها الرئيسية بواسطة التعديل في الفروض المساعدة . بينما يعتقد البعض الآخر مثل "كارل بوبر" Karl Popper ( 1902-1994)  أن التعديل في الفروض المساعدة يمكن أي فرض من أن يكون متفقاً مع الظواهر، وهذا مما قد يسعد الخيال، لكن لن يساعد على تقدم المعرفة . ويرى "بوبر" أن إدخال الفروض المساعدة يكون مقبولاً إذا كانت تزيد من قابلية الفرض للاختبار. والحقيقة أن عملية إدخال الفروض المساعدة أو تعديلها أو تنقيحها قد يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه " بالفروض الغرضية " كما أن قبول أو رفض هذا النوع من الفروض يتوقف على الغرض منها .

ويجب أن نميز بين الفروض المساعدة والفروض العينية علي أساس أن الفروض العينية مغرضة، وهي التي تعني (في نظر كارل بوبر وأتباعه)، التملص من التكذيب.. والفرض العيني هو الفرض الذي يوضع لتفسير ظاهرة بعينها أو حدث بعينة، وليس له ما يؤيده غير هذه الظاهرة أو هذا الحدث ويقابله الفرض الذي تقوم علي صدقه بينة مستقلة، أي الذي تؤيده أمور أخري غير التي وضع أصلاً لتفسيرها، وهذا هو الفرض المساعد حقيقة . والفرض العيني لا يمكن اختباره مستقلا عن النسق ككل، بعكس الفرض المساعد . ويمكن دائما وضع فرض عيني يغطي موضع الكذب الذي نكشفه في النظرية مما يحمي النظرية من التفنيد . ومن ثم يجعل محاولة التكذيب مستحيلة الوصول إلي نهاية معينة وحل هذه المشكلة كما يثيرها الاصطلاحيون أو أي سواهم – يكون بالتمييز بين الفروض المساعدة والفروض العينية، فنقبل الأولي ونرفض الثانية والتمييز بين الفرض العلمي والفرض المساعد مثل أي تمييز ميثودولوجي أمر مبهم يكون فقط علي وجه التقريب . مثلا قدم فولفجانج باولي فرض (لنيوترينو) تماما فرض عيني ولم يأمل في إمكانية التوصيل يوما إلي دليل مستقل له بل وكان مثل هذا الدليل مستحيلا في وقته، لكن مع تطور المعرفة عن جسيمات الذرة أصبح فرضا مساعدا وأمكن اختباره مستقلا. لذلك لا يجب أن نتحامل بقسوة علي الفروض العينية، فقد تصبح يوما ما قابلة للاختبار المستقل وقد يكون اختباره مفندا فيؤدي بنا إلي التخلي عن الفرض والتوصل إلي فرض عيني جديد، قد يصبح مع الأيام فرضا مساعدا وهكذا .

وفي هذه المقالات نحاول أن نجيب علي تلك التساؤلات: هل نجح لاكاتوش في الوصول إلي تفسير ابستمولوجي لبرامج الأبحاث أم لا؟. كل هذه الأمور سوف نكشف عنها من خلال  إلقاء الضوء علي فلسفة لاكاتوش في تفسير الفروض المساعدة ودورها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية، ثم إعادة بنائها في ضوء المناقشات التي أحاطت بها، والانتقادات التي تعرضت لها . وعلي هذا فإن هذا البحث يرمي إلي فهم وتأويل فلسفة لاكاتوش في الفرض المساعدة، برؤية تحليلية نقدية.

وبهذا تتجسد محاور المقالات علي النحو التالي:

أولاً: موقف كارل بوبر من الفروض المساعدة

ذهب  " كارل بوبر" أن منهج العلم قائم علي التخمينات والمحاولات المتكررة بوصفها صيغة لـ " منهج المحاولة واستبعاد الخطأ " Method of Trial and Error. ومن ثم فإن نمو المعرفة يتقدم ابتداء من حذف الخطأ Elimination of Error  ويمكن الإشارة إلي هذه العملية بصيغة بوبر الآتية:

P1--------TT-------EE--------P2

حيث نبدأ بمشكلة ما، ونصيغ حلاً مؤقتاً، أو نظرية مؤقتة، ثم نعرضها بعد ذلك لكل الاختبارات الشاقة الممكنة في إطار عملية حذف الخطأ الذي يقودنا لصياغة مشكلات جديدة، وهذه المشكلات تنشأ من نشاطنا الخاص المبدع،  يقول بوبر:" يستند التقدم في العلم أو في الكشف العلمي إلي الاستخدام الثوري لعملية المحاولة النقدية وحذف الخطأ التي تتضمن بدورها البحث عن اختبارات تجريبية عديدة أو محاولات ممكنة لضعف النظريات العلمية أو تفنيدها " .

بيد أن الموقف الذي اتخذه بوبر هنا من العلم قائم علي أن هناك سمة أساسية في ضوئها تميز بين ما هو علمي وما غير علمي هذه السمة هي " القابلية للتكذيب Falsifiability "، حيث أن ما يشغل خيالنا بل ويشده فيما يري بوبر هو تفنيد نظريته المبكرة عندئذ يكتسب العلم دلالته وخصوصاً عندما يكون واحداً من المغامرات الفكرية التي يسعي إلي ممارستها الإنسان . وبوبر هنا يري أن مبدأ القابلية للتكذيب يقرر ما إذا كانت النظرية تعطينا محتوي إخباريا أم لا،  وذلك في ضوء حجج تجريبيه وملاحظات .... فمهمة العلماء هي أن يحكموا النظريات في ضوء اختبارات قاسية .

ولذلك إذا ما تم لنا اختبار النظريات، فإننا نقبل النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، والأكثر قابلية للاختبار، والأكثر في المحتوي (سواء المحتوي التجريبي أو المحتوي المنطقي). وعندما نتعرض للعلاقة بين القابلية للتكذيب وبين المحتوي المعرفي للقوانين والنظريات، نجدها علاقة وطيدة، إذ أن المستهدف من وراء ذلك هو محاولة تكذيب أو تفنيد المحتوي المعرفي لأي قانون أو نظرية. والواقع أن سبب هذه العلاقة القوية بينهما هو أن التحليل الدقيق لنظرية القابلية للتكذيب يظهر لنا أنه من الضروري أن نبحث عن النظريات الأكثر في محتواها المعرفي، النظريات الجسورة أو الجريئة متذكرين دائماً أن النظرية الأفضل هي التي تخبرنا أكثر، أو ذات محتوي معرفي أكثر، وهي بالتالي الأكثر قابلية للتكذيب.

والسؤال الآن ماذا نفعل إذا وجدنا أنفسنا بمواجهة أكثر من نظرية تتوافر فيها شروط القابلية للتكذيب، القابلية للاختبار والمحتوى المعرفي؟ كيف نفاضل بين النظريات ونختار؟

وفي نظر بوبر إذا تعرضت النظرية لاختبار القابلية للتكذيب، واستنبطنا منها عبارات أساسية جديدة، وكانت هذه العبارات متوافقة مع الواقع، بعبارة أخري لم نجد فئة عبارات أساسية تناقضها، فأثبتت مادتها فلابد من قبولها فقط لأننا ليس لدينا داع لرفضها . فالتعزيز – الذي هو جواز مرور الفرض إلي عالم العلم – هو مدي صمود الفرض أمام اختبارات منهج العلم القياسية، وكلما كانت الاختبارات أقسي كلما حازت النظرية التي تجتازها علي درجة تعزيز أعلي . وكلما كانت النظرية أعظم أى أغزر في المحتوي المعرفي وأجرأ في القوة السارحة وأكثر اقترابا من الصدق – أى أكثر قابلية للتكذيب، كلما تمكنت من الصمود أمام اختبارات أكثر قسوة وبالتالي كلما كانت درجة تعزيزها أعلي . لذلك كان بوبر يؤكد دائما علي قسوة الاختبار حتي لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلي نسق العلم بسهولة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم