أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: جورج مور والنزعة المثالية

لا غرابة ان نجد جورج ادوارد مور فيلسوف الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية ينحى منحى عداء النزعة الفلسفية المثالية التي اعرض بعضها بهذا المقال. فهو يرى ان ماهو مفهوم واضحا لغويا ادراكيا لا يحتاج الى تعريف. ويضيف ان الكون – يقصد عالمنا الذي نعيشه - روحي في صميمه. بمعنى والكلام له انه يختلف كليا مع ما يبدو لنا فهو ينطوي على عدد كبير من الكيفيات او الصفات التي يبدو انه لا يتمتع بها . كلام مورهذا منسوب للمثالية ورد على لسانه1.

جورج مور فيلسوف معروف بنزعته الشعبية التبسيطية للفلسفة ان تكون مفهومة واضحة تتحدث بلغة الناس العاديين حالها حال لغة الاجناس الادبية والثقافية والسرديات النثرية البعيدة عن لغة التعقيد الابهامي والاستعصاء المتبادل بين المتلقي والنص الذي تنفرد به الفلسفة دون سائر الاجناس الثقافية عامة.

جورج مور كان له دورا اساسيا في الانشقاق عن الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية في شخص رائدها بيرتراند رسل متماهيا مع افكار فنجشتين المتأخر الذي إنقلب على تصحيح افكاره الخاطئة عن اللغة في اطروحة الدكتوراه التي تحصّل عليها تحت اشراف بيرتراند رسل. كما كان كارناب عضو الوضعية المنطقية حلقة فيّنا سابقا متضامنا مع جورج مور في التمرد على النهج الذي وضعه بيرتراند رسل في الوضعية التحليلية الانجليزية حلقة اكسفورد ومحاولته الفاشلة ربط اللغة بالمنطق والرياضيات عملا بتوصية الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة.

جورج مور على لسان الفلاسفة المثاليين اعتبر الكون يقصد الطبيعة والانسان هو في صميمه روحيا انما ينزع نحو مثالية تستبطن ماهو روحاني ديني ميتافيزيقي حين يقر بعبارات غامضة ان هذا العالم يحتوي كيفيات او صفات يبدو ان الكون لا يتمتع بها على حد تعبيره.

من السهل على اي قاريء متلق ان ينكر على مور ان الكيفيات او الصفات في عالمنا هي واقعية لمادة وظواهر طبيعية مدركة وليست روحانية لا يتمتع بها الكون والا لما كنا استطعنا نسبتها ادراكيا او حدسيا او حتى خياليا لعالم روحي في صميمه غير مدرك حسب مور ولا لعالم مادي يفرض نفسه حضوريا وهو امر مشكوك به.

جورج مور ومقولته (الزمن لا واقعي)

ماذا يمكننا القول في التعقيب على عبارة مور الملتبسة فلسفيا لكنها الصحيحة صياغة وليست مثالية بل هي مادية بالتفكير الفلسفي رغم نسبتها للفلسفة المثالية للاسباب التي ندرجها عنها لماذا يكون الزمن لا واقعي؟:

1. تعبير مور الزمن لا واقعي تعني الزمن حيادي يلازم الواقع ولا يتمظهر بمكونات الاشياء التي يلازمها بحيادية مستقلة عنها تماما.

2. الزمن مطلق غير محدود غير مدرك كموضوع بخلاف الواقع المحدود المتعيّن بابعاد مادية لا تحتاج البرهان على امكانية ادراكها. فالمطلق الزمني لا واقعي لانه ازلي خالد غير متناهي ولا قابل للادراك الا بدلالة حركة غيره من الاجسام المحتواة داخله.

3. الزمن لا واقعي لانه لا يتموضع بالاشياء التي يلازمها ويحتويها والتي لا تدرك الا بدلالته المستقلة الحيادية عنها. فالزمن لا يكون جزءا من مدركاتنا العقلية في المواضيع والاشياء. الزمن دلالة ادراكية لحركة الاجسام التي يحتويها لكنه ليس بحركة ولا بموضوع مستقل يدركه العقل.

مور وادراك الوجود

في عبارة فلسفية رشيقة تبدو لاول وهلة صحيحة صائبة يقول مور (وجود الشيء هو قابليته على الادراك). العبارة لا تمت بصلة الى مثالية في التفكير الفلسفي. فهي تشير لواقعة مادية تحمل صدقها البرهاني التجريبي معها. وتحدد كيفية ادراك الوجود واقعيا. فوجود اي شيء في عالمنا هو موضوع لادراكنا الحسي والعقلي لكنه لا يحمل معه قابلية الادراك كما ورد على لسان مور. العبارة قابلة للتفنيد المادي كما سيتوضح معنا لاحقا.

مثالية مور هنا بالعبارة تستبطن في احشائها بما لا تفصح عنه اللغة تعبيرا. هو ان ما ليس له قابلية الادراك غير موجود وهو خطأ. والحقيقة التي لا شك بها ان جميع موجودات عالمنا بالحياة والطبيعة وجودها متحقق بالضرورة الواقعية حضوريا لانها تمتلك قابلية ادراكها معها.لكن هذه القابلية الادراكية هي من خصائص الشيء في وجوده وليس خاصية الشيء في ادراكه.

صحيح الادراك الحسي او العقلي هو الوسيلة الوحيدة في ادراكنا الوجود الانطولوجي المادي. لكن نتساءل اي الموجودات والاشياء قابلة للادراك كي لا نقع بخطا نكران وجودها المستقل عنا؟ الحقيقة أن الادراك الحسي او العقلي لا يستطيع الالمام بكل شيء موجود بالحياة والطبيعة. لكن العقل الادراكي للفرد هو الذي يحدد نوعية الادراك لما هو مرغوب ادراكه ومعرفته . العقل الادراكي الفردي والجمعي لا يفكران في مواضيع لا معنى لها ويعجز العقل ان يتصورها اساسا وقد تكون غير موجودة ينطبق عليها مقولة وليم جيمس على الارجح قوله الباحث عن الحقيقة الفلسفية كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة.

الشيء الآخر الذي لا يقل اهمية عن ما ذكرناه هو ان موجودات الوجود موجودة باستقلالية عنا سواء طالها ادراكنا ام لم يطلها. وموجودات الوجود التي لا حصر لها ويعجز الادراك الحسي والعقلي لها جميعا أن يحدد وجودها المادي والانطولوجي فهي تمتلك قابلية الادراك لكنما لا تطالها الحواس ولا العقل لاسباب لا يمكن حصرها فليس كل شيء بالوجود يستحق الادراك. الحواس والعقل تحصر اهتمامها الادراكي بما له اهمية يستجيب العقل لها دون غيرها فقط.

نخلص من هذا ان موجودات عالمنا موجودة باستقلالية عنا وتحمل معها صفة امتلاكها قابلية الادراك كونها جزء تكويني من موجود تدركه الحواس والعقل. لكننا لسنا بحاجة ادراكنا لها هذا ما يقوله العقل. الموجود المادي وحتى الموضوع الخيالي يسبق كل فعالية يمتلكها العقل في علاقته الادراكية التخارجية المعرفية معها. ويقر جورج مور (بان الكشف عن بطلان القول بوجود هوية او تكافؤ بين الوجود وقابلية الادراك له سيكون هو الكفيل باضعاف حجة انصار المثالية)2. بتعبير آخر مور يقر ان خاصية قابلية الادراك ترجع لمن يدرك الشيء في كينونته الواحدة الموحدة. وليست خاصية الموجود في وجوده.

الوجود الروحاني

يذكر دكتور زكريا ابراهيم نقلا عن لسان جورج مور ان وجود الموضوع هو وقوعه في خبرة الذات. ولما كانت الذات روحانية كان الوجود كله في رأي أصحاب المذهب المثالي روحانيا3.

الموضوع المقيّد بقابلية الادراك حسب العبارة الفائتة من الوجهة المثالية الساذجة لا تعني الموجود المادي بل تعني ميتافيزيقا التهويم التفكيري الصرف. لكن من ناحية خبرة الذات الروحانية التي تصبغ الوجود يكون اسعاف هذا المنحى ان المقصود هو مواضيع الخيال وهذه العلة ليست كافية ابدا.

ومن التعسف الربط بين ما يبتدعه المخيال الادراكي لمواضيعه وبين الخبرة الذاتية الروحانية الميتافيزيقية المثالية للادراك. فالمخيال منتج لمواضيعه خارج قيد تكبيله بالروحانية الميتافيزيقية فهو ينتج مواضيع الفن والادب وضروب الثقافة التي لا علاقة لها بالروحانية المثالية الميتافيزيقية التي تصبغ الخبرة الذاتية والتي تقوم لاحقا بصبغة الوجود باكمله بالروحانية المطلقة ميتافيزيقيا. الخبرة الروحانية المثالية للذات غير منتجة وهي المستهلك الميتافيزيقي بلا طائل لكل ما لا يقع في خانة المواضيع التي يدركها العقل ويعالجها معرفيا.

طبعا من السهل الرد المادي في تخطئة ان وجود الموضوع يحدد وقوعه في خبرة الذات باستثناء مواضيع الخيال غير المادية التي يقوم المخيال في تخليقها. ولا علاقة حقيقية يتقبلها العقل انه طالما كانت الذات روحانية فهي تستطيع صبغ كل الوجود بالروحانية. روحانية الكون يمكن اسباغها بدون ادنى حقيقة واقعية يتحفظ المرء عليها كون هذا التعبير مثالي يعالج مفهوم مطلق ميتافيزيقي. عندها يصبح متاحا لكل شخص ان يسبغ ما يراه منسجما مع مزاجه في وصفه الوجود بما يشاء بعيدا عن الواقع والعقل والعلم.

اللون والوجود

يعرض مور مثالية فجّة هي علاقة الوجود او بالاحرى الموجود وقابلية الادراك الملازمة له تكوينيا على انها لون او صفة كيفية ويهاجم المثالية بقوله (انهم يتصورون علاقة اللون الازرق بالوعي هي على غرار علاقة اللون الازرق بالخرزة الزرقاء)4.

ما يهمنا هنا هو خطا جورج مور اباحته امكانية استعارة احلال الادراك محل الوعي وبالعكس. الادراك كما هو معلوم خاصية الحواس في نقلها الانطباعات البدئية الاولية عن موجودات العالم الخارجي الى الذهن عبر شبكة الاعصاب.

اما الوعي فهو حصيلة افكار العقل في التوصيات القطعية الصادرة عن الدماغ في معرفته الاشياء المدركة الواصلة له عبر الانطباعات الاولية الحسية ومعرفته لها ومقولاته عنها.. الوعي والادراك كلاهما حلقتا تجريد في منظومة العقل الادراكية ومن المحال ان ينوب احدهما عن الاخر.

يذكر مور باستهجان يدحض به الافكار المثالية ما معناه ان امتلاك الاشياء والموجودات لخاصية قابلية ادراكها ذاتيا التي تلازمها وجودا انطولوجيا باعتبار قابلية الادراك هذه هي (كيفية) او (صفة) تكوينية متموضعة في الموجودات.

ليس شرطا ضروريا ان تكون علة ادراكنا موجودات العالم الخارجي انها تمتلك تكوينيا كيفيا او صفاتيا علة تلازمها تسمى قابلية الادراك. الحقيقة الاكثر مقبولية ان قابلية الادراك هي صفة تحوزها الحواس ولاحقا يتقبلها العقل وهي وسيلة ادراكهما موجودات الوجود. وليس لان الموجودات والاشياء تمتلك قابلية ادراكها كصفة تكوينية متموضعة بها تلازمها. قابلية الادراك لكل شيء في عالمنا الخارجي والطبيعة ان الحواس والعقل يمتلكان قابلية الادراك اللامحدودة لكل شيء يكون موضوعا ولا تمتلكها الاشياء والموجودات بذاتها في وجودها المستقل ماديا.

بيركلي ومور

من المعروف أن بيركلي هو أحد ابرز ثلاثة فلاسفة مثاليين متطرفين حتى العظم هم جون لوك وديفيد هيوم وبيركلي هو اشدهم مثالية ساذجة. رغم التباين بينهم فلسفيا. جون لوك وديفيد هيوم فيلسوفان تجريبيان بالرغم من تطرفهما المثالي. فقد انكرا وجود ما يسمى العقل. وانكر بيركلي معهما وجود عالم خارجي لا تدركه الحواس يقع خارجها. كما هاجم ديفيد هيوم وجود العقل اوالسببية وانكرهما انكارا تاما. بما جعل من شهرة ومكانة هيوم الفلسفية قامت بفضل تفنيده لمفهوم السببية.

حول موضوعة الادراك يقول بيركلي(ان وجود الشيء يتحدد في قابليته ان يكون موضوعا للادراك)5. بالحقيقة لا غبار على صحة العبارة ليس فقط بالمفهوم المثالي بل بالمادي ايضا.

مور يفسر عبارة بيركلي هذه في دخوله نفق فلسفي شائك ان كل موجود لا يحمل مضمونا لا يكون موضوعا لادراك. طبعا هذا خطأ فلسفي ويدخلنا في ثنائية ابستمولوجية ادراكية ان كل موجود – هو بديهيا موضوع طالما هو محدد ومتعّين وجودا واقعا - له صفات خارجية مدركة وجوهر او مضمون يحتجب خلف الصفات وهو صحيح.

ادراكات الحواس لا تعمل على وفق هذه الآلية الثنائية التي تفصل بين الصفات الخارجية والمضمون. اذ ان ادراك الحواس للاشياء هو ادراك كليتها باشتمالية الصفات والمضمون بمعنى ادراك الشيء كينونة موحدة. صحيح ادراك الصفات الخارجية حسّيا تأتي تراتيبيا فسلجيا بيولوجيا قبل مهمة العقل التفتيش عما وراء الصفات التي ادركتها الحواس وغالبا ما تكون تلك الادراكات خادعة مضللة للعقل.

يصادفنا ما لا حصر له من موجودات في حياتنا وعالمنا الخارجي وفي الطبيعة يكون ادراكنا لصفاتها الخارجية يغني او يبطل اهتمام العقل الادراكي التفتيش اذا ما كانت تحمل مضمونا مدّخرا جوّانيا غير صفاتها الخارجية البائنة ام لا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيع ادراكه بدافع معرفة مضامينها بقدر نقله الانطباعات السريعة عنها. فادراك الحواس ينحصر في الصفات الخارجية للاشياء المدركة فقط. وانطباعات الحواس حسب ديفيد هيوم هي ليست افكار العقل لذا تكون الانطباعات قلقة ومشوشة سريعة الزوال عكس الافكار التي مصدرها العقل وينقلها الوعي فهي ثابتة.

ورغم مثالية بيركلي الفجّة الساذجة فهو قال بالواحدية الابستمولوجية الادراكية التي تدرك الاشياء بكليتها الكينونية دونما الفصل بين صفات الشيء المدرك الخارجية وبين مضمونه المدّخر او الجوهر المحتجب خلف الصفات غير البادي البائن الادراك. علما انه ليس كل مدركاتنا تحمل في دواخلها جوهرا او مضمونا هو غير صفاتها الخارجية. وكان بيركلي صائبا في مقولته.

ادراك الشيء حسب نظرية بيركلي الواحدية الابستمولوجية هو ادراك لكينونة موجودية واحدة لا تنفصل بها الصفات عن الجوهر او عن المضمون سواء كان المضمون خلف الصفات الخارجية موجودا ام لا . مثال ذلك الحيوان لا يدّخر مضمونية جوهرية خلف صفاته الخارجية المدركة فما يحمله من صفات خارجية مدركة هي جوهره الحقيقي.

وقد سبق وخالف فلسفة بيركلي في الواحدية الابستمولوجية كلا من ديكارت وكانط على التوالي بما عرف عنهما بنظرية الثنائية الابستمولوجية الادراكية. ديكارت قال ان ادراكاتنا للاشياء ينحصر في ادراكنا لصفاتها الخارجية بمعزل عن الاهتمام بادراك مضمينها الجوهرية غير المدركة مع الصفات. وانكر ديكارت ان يكون هناك ادراك يتناول الكينونة الكلية الشاملة للاشياء. واعترف ديكارت بان الموجود المستقل يتكون من مظهر او شكل ومضمون او جوهر لا تدركهما الحواس سوية وقد اخذها عن اسبينوزا. وذهب كانط ابعد من ديكارت بهذا المنحى قوله علينا صرف الاهتمام بالتفتيش العبثي غير المجدي عن الجوهر او المضمون المحتجب خلف الصفات الخارجية لمدركاتنا.

اصبح لدينا مهما الاشارة الى بطلان مقولتين مثاليتين للادراك بهاتين الحقيقتين اللتين اثبتناهما:

الاولى: وجود الشيء لا تحدده قابليته على الادراك غير الموجودة اصلا.

الثانية: وجود الشيء يتحدد ادراكيا حين يكون مادة او موضوع يتكون من وحدة متألفة من شكل ومضمون .

جورج مور واشكالية الموضوع

اثار مور اشكالية مثيرة للجدل حول ما هو الموضوع؟ قوله: (لابد للادراك الحسي نفسه من ان يدرك – يقصد يكون موضوعا مستقلا عن مدركه الحسي والعقلي - لكي يكون موجودا. ويضيف مور متسائلا لماذا لايكون في إمكان الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ ولماذا لا يكون في إمكانية المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟6 .

رغم هذا التلفيق الفلسفي المثالي لجورج مور خارج المنطق الواقعي الفلسفي اجد ذلك يلزمني توضيح ما جاء به:

1.جورج مور في عبارته السابقة لا يميز ما بين الادراك الحسي (كوسيلة) وبين موضوع الادراك المستقل وجودا في كليته المتعينة ماديا.

2. من المحال ان تتحول وسيلة الادراك الحسية الى موضوع مستقل بذاته دليل قول ما يحب مور ان يفترض قوله لماذا لا يكون في امكانية الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ الادراكات الحسية بعدية على ادراك موضوع سابق عليها وجودا انطولوجيا مستقلا. والادراكات لا توجد بغير ملازمتها لموضوع تدركه فكيف تكون هي موضوعا مستقلا؟ ومن يدرك ذلك الموضوع في حال تخليقنا له حسب مور تعسفا فلسفيا؟؟

3. الادراكات الحسية هي وسيلة تجريد لموضوع كما اسلفنا ولا وجود لها لا وسيلة ولا موضوع مستقل بذاته من غير موضوع تدركه سابق عليها. وكيف يمكن للادراك ان يتحول الى موضوع مستقل عن موضوع ادراكه المادي؟ موضوع الادراك لايكون موضوعا يدركه العقل الا بوسيلة نقل الاحساسات الخارجية عنه بوسيلة مدركات الحواس. والعقل يعتمد فسلجة الدماغ في النظر بالانطباعات الحسية الواصلة للدماغ ولا يعتبرها موضوعا مستقلا عن موضوع انطباعاتها الحسية الاولى المستمدة من موجود مستقل.

4. لا اعرف كيف اباح جورج مور لنفسه ان يطرح مثل هذه الافتراضات الافتعالية تساؤله لماذا لا يكون في امكان المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟

المضامين الحسية في الاشياء على افتراض وجودها هي جوهر مدّخر في الكلية الكينونية للموجودات كمواضيع مستقلة وجودا غير قابلة لحظة إدراكها للتقسيم الافتراضي التعسفي المفتعل بين شكل ومضمون لموجود شيئي. كما ليس من الثابت أن لجميع مدركاتنا مضامين حسيّة يتوجب أن تكون موضوعا مستقلا لادراك حسي او عقلي.

المضامين الحسية والعقلية في الاشياء والموجودات في حال تحقق وجودها في مدركات مادية تكون جزءا جوهريا تكوينيا من تلك الموجودات لا قدرة ذاتية لها عن الانفصال. ولا يمكن ان يكون المضمون منفردا عن الشكل موضوعا لادراك. وذكرنا سابقا ان الحواس بمرجعيتها العقلية تدرك الاشياء والموجودات بكليتها الشاملة كينونة موحدة غير منقسمة الى صفات او شكل ومضمون.

كما ذكرنا انه من غير المؤكد ان جميع مدركات الحواس والعقل تحمل مضامين هي غير صفاتها الخارجية. لذا يكون من المحال ان تغادر المضامين شكل احتوائها المادي التكويني في موجود يدركه العقل لتصبح موضوعات مستقلة تبحث لها عن شكل يحتويها كما ويبحث عمن يدركها كمواضوع مستقلة من غير ادراك الحواس والعقل.

***

علي محمد اليوسف

....................

الهوامش:

1. دراسات في الفلسفة المعاصرة / دكتور زكريا ابراهيم ص187

2. نفسه نفس الصفحة

3. نفسه نفس الصفحة

4. نفسه نفس الصفحة

5. نفسه ص 191

6. نفسه ص 198

في المثقف اليوم